الخيمة التقليدية في صحراء المغرب.. قصر ضيافة بلا أبواب

للصحراء خصوصيتها في الحياة التي لا تشبه المدن في السكن ولا في العادات أو التقاليد، فالإنسان الصحراوي ابتكر منذ القديم مسكنه المتنقل من الوبر والصوف وشعر الماعز الذي يحميه من الحر في الصيف والبرد في الشتاء، إنها الخيمة التي جعل منها مجلسا للضيافة في النهار ومهجعا للنوم في الليل، هذه الخيمة التي واجهت الاندثار بعد انتقال أهل الصحراء إلى المدن واعتماد الباقين منهم على مبان حجرية، تعود اليوم لتنتصب مجددا في منازل الأغنياء الفخمة أو مأوى للسياح في ربيع الصحراء وخريفها، أو فضاء احتفاليا بالتراث والثقافة.

استخدم الإنسان الصحراوي في حله وترحاله الخيمة مسكنا له منذ الأزل تحميه من وحشة المكان والزمان، ثم أضحت رمزا للكرم والاستقرار الذي يسعى إليه أهل الصحراء في المغرب، ومنبعا لثقافتهم.

وشكّلت الصحراء منذ القديم تحديا صارخا للإنسان، بما تتضمنه تفاصيل الحياة اليومية فيها من مصاعب لعل أبرزها الطقس الذي لا يكاد يستقر على حال، لكن هذه التحديات لا تنسحب على الإنسان الصحراوي الذي استطاع فهم تفاصيل الصحراء وجعلها طوع أمره في كل الفصول.

وساهمت الخيمة في تذليل الصعاب أمام الإنسان في صحراء المغرب، فهي مسكنه والمكان الذي يوفر له لحظة الاستقرار المنشودة. وتعتبر الخيمة أول وحدة اجتماعية يمكن مصادفتها لدى المجتمع الصحراوي، فهي لا تعتبر فقط وحدة مكانية للاستقرار المادي بل توضع ضمن إطار مجموعة العلاقات التي تجمع عدة أفراد داخل أسرة واحدة.

وتأوي الخيمة كل مستلزمات الحياة من أوان وأغطية وأفرشة ومواد غذائية ترتب بشكل يسمح باستقبال الضيوف وإطعام الوافدين وإيوائهم دون ضجر أو إزعاج في جو يطبعه الانسجام والبساطة التي تعكس المروءة والكرم والجاه عند أهل الصحراء.

ولا يخلو إعداد الخيمة من طقوس احتفالية تلازمها من أول خطوة حتى تنتصب شامخة في لحظة انتصار على الطبيعة، فرغم بساطة شكل الخيمة إلا أن نسجها ليس بالأمر السهل إذ قد يستغرق أياما لكنها لا تتعدى الشهر الواحد.

كد نسائي

مأوى تنسجه النساء مضاد للبرد والحرارة
مأوى تنسجه النساء مضاد للبرد والحرارة

صناعة الخيمة حرفة نسائية أتقنتها الصحراويات في المغرب عبر الأجيال، تقول فاطمة حيدة، “لقد ورثنا صناعة الخيمة عن أمهاتنا وجداتنا، إنها أمانة في أعناقنا … لن نقبل أبدا أن نكون آخر جيل لهذه الحرفة.. سنعمل على تعليمها لبناتنا وحفيداتنا”.

وتضيف متحدثة عن مراحل إعداد الخيمة من جز الصوف إلى أن تنصب بيتا يقيهم برد الشتاء وحر الصيف، “في موسم جز الصوف تخرج النساء للأراضي الخلاء لتجميع صوف الغنم وشعر الماعز ووبر الإبل من الرعاة البدو، ويتم في المرحلة الأولى غسله ثم تفكيك الشعر الأسود من الأحمر بضربه بعصي خفيفة تسمى المطارق، وتسمى هذه العملية ‘بالغرشلة’، وذلك في يوم تستدعي فيه سيدة البيت النساء من أقاربها ليوم الـ’أتويزة’ وهو يوم عمل تطوعي تتم فيه ضيافتهن على الكسكسي بلحم الخروف، بعدها تأخذ النسوة بإعداد الصوف والوبر للغزل ثم تأخذن ‘المبرم’ وهي أداة تدور بشكل يدوي تجعل خيوط الصوف غليظة، بعد ذلك تبدأ عملية ‘النّزْ’ وهي صناعة ‘لفليج’ أو تلك القطع التي تشبه الحصير والتي ستشكل الدعامة الأساسية للخيمة”.

وتتم عملية لفليج بوضع خيوط متوازية بطول أمتار وتوضع خيوط ثانية من فوق منها وتجمع بخيط يسمى “خيط النّيرة”، ويُفرق بين الخيوط عرضا بقطعة خشب تسمى “الصُّوصْية”، وتقوم النسوة بضربها بـ”المدرة” حتى تنسجم الخيوط مع بعضها البعض ويُطوى لفليج في النهاية لتعاد العملية مرة أخرى حتى الحصول على عدد الفلجة المطلوبة، قد تكون 8 إلى 10 حسب مساحة الخيمة.

وتقوم النسوة بعملية تسمى “الجبرْ” وهي خياطة الفلجة بعضها ببعض تنتهي بعملية “شلْ” الخيمة أي خياطة أركانها لتصبح جاهزة.

تقول فاطمة، إن صناعة الخيمة التقليدية، تتطلب أسابيع عدة من العمل، تعتمد أساسا على صوف الأغنام وشعر الماعز، مع استعمال مواد طبيعية في عملية الصباغة.

وتستعمل نساء الصحراء الصوف كذلك في نسج أفرشة تقليدية لتأثيث الخيمة، حيث يتم تلوينها باستعمال مواد طبيعية من قبيل الحناء وقشور الليمون والكركم، والبابونج وقشور البصل وقشور الرمان ولحاء شجرة الجوز وأوراق الجزر.

وتحتاج الخيمة للأوتاد التي تستخدم لتثبيت الخيمة بالأرض، ولخوالف أي حواشي على شكل حبال مسطحة ويطلق عليها “لحكاب”، ووظيفتها، تقوية الخيمة عند نصبها، وربطها بالأوتاد المثبّتة في الأرض، إلى جانب “لخراب” و”البيبان” وهما ساريتان من الخشب تمسكان بقمة الخيمة لفتح واجهة الخيمة الأمامية، بحيث توضع كل واحدة في جانب من الخيمة، والمسمك وهو عود يأتي بين البيبان في خط مواز مع الركائز.

ويفضل سكان الصحراء المغربية أن يكون باب خيمتهم مفتوحا نحو الشرق، وتؤثث بالسجاد والزرابي المصنوعة محليا، وتضع فيها ربة البيت الطاولة المصنوعة من الخشب بارتفاع متر ونصف تقريبا لتضع عليها تيزياتن (والتيزياتن تصنعها النساء من الجلد لحفظ لباس المرأة)، ولا تخلو الخيام من الحجبة وهو ثوب ساتر تستخدمه ربة البيت لعزل أهل الخيمة من النساء والأطفال عن الضيوف من الرجال.

وتتعدد أشكال وأنواع الخيام لكن أبرزها تلك المصممة على شكل مثلث، وهذا التصميم ليس اعتباطيا فهو يقيها من الزوابع الرملية وهطول الأمطار بيد أن السمة الأبرز للخيمة هي شكلها الانسيابي ومرونتها في الحل والترحال، فقد لا يستغرق نصبها أو نزعها إلا بضع دقائق معدودات.

وتدل الخيمة المفتوحة على أربع جهات على انفتاح صدر سكان الصحراء للضيوف وحرصهم على إكرام وفادتهم، كما أن لفظ الخيمة في الدارجة يحمل أكثر من دلالة فـ”ابن الخيمة الكبيرة” يعني ابن الحسب والنسب.

خيمة فخمة

اتخذ الصحراويون منذ القدم من الخيمة مسكنا، ومع الانتقال إلى الحياة في المدينة ظلت الخيمة تراثا ثقافيا عريقا يتحدى بجماله المعمار الحديث، ويصعب محوه من الذاكرة.

وبعد استقرار أهل الصحراء المغربية في المدن داخل الشقق لم يبعدهم الأمر عن حياة البداوة والحنين إلى العيش داخل خيمة، إذ تجد وسط الفيلات الكبيرة بمدن كلميم وطانطان والعيون وغيرها من المدن المغربية، عائلات تنصب خياما تقليدية في إشارة واضحة إلى غلبة الأصل التقليدي للإنسان الصحراوي على كل ما هو عصري وحنينه لحياة البداوة وبساطتها.

وتطورت الخيمة وأصبحت مجهزة بأحدث وسائل الراحة العصرية، من أفرشة وأوان وتلفاز وصحون هوائية وثلاجة، وهناك خيام تستخدم فيها الطاقة الشمسية، حيث أصبح أهل الصحراء يعيشون البداوة بأساليب الراحة، وأصبحت بالتالي الخيمة الحالية لا تشبه الخيمة الأصلية إلا في الشكل.

وازدادت رغبة سكان المدن من الصحراويين في استخدام الخيمة في العطل والرحلات للتخلص من ضجيج المدينة والذهاب إلى العيش وسط هدوء الصحراء ولو لأيام معدودة داخل خيمة، ولم يكتف بعض أهالي الصحراء بقضاء الوقت في الخيمة خلال عطلة نهاية الأسبوع بل تعدى ذلك إلى نصب الخيام بحدائق المنازل.

وازداد الاهتمام بالخيام التراثية خلال المواسم والمهرجانات المقامة في المدن الصحراوية التي تجلب العديد من الزوار والسياح الذين يفضلون الإقامة فيها وخاصة في موسم الخريف والربيع، وأصبحت هذه المناسبات الثقافية أكبر مساهم في إحياء مجد الخيمة التقليدية.

طقوس احتفالية

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: