حسابات ماي الخاطئة ومستقبل بريطانيا

تبخرت نتائج عامين من مفاوضات رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، مع الاتحاد الأوروبي على اتفاق خروج المملكة وذلك من خلال رفض البرلمان البريطاني الاتفاق المطروح. كانت مؤشرات الرفض بادية منذ أشهر ترددت فيها ماي بطرح الاتفاق على البرلمان وعقدت معه مفاوضات طويلة ومعقدة كان يفترض أن تؤدي إلى إقناع أعضاء البرلمان. لكن رفض الاتفاق جاء بغالبية ساحقة وبفارق 230 صوتاً، ما جعلها أوسع هزيمة برلمانية لأي رئيس وزراء بريطاني في التاريخ الحديث للمملكة.

يبدو ذلك شديد الغرابة بعد عامين على موافقة البريطانيين في استفتاء شعبي على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ومع ما بدا أنه التفاف لحزب المحافظين حول ماي، إذ عجزت الأخيرة عن إقناع معظم أعضاء حزبها بدعم الاتفاق الأخير. الأكثر غرابة هو عدم سحب الثقة من الحكومة بعد هذه الهزيمة؛ إذ نجت حكومة ماي من جلسة حجب الثقة التي دعا إليها زعيم حزب العمال، جيريمي كوربن، بعد التفاف أعضاء حزبها حول الحكومة.

وهذه هي المرة الثانية التي تنتهي فيها حسابات ماي إلى كارثة سياسية. قبل نحو عام خسر حزب المحافظين الأغلبية المطلقة لمقاعد البرلمان بسبب انتخابات مبكرة كانت قد دعت إليها ماي دون أن تكون مضطرة إلى ذلك، معتقدة أن بإمكانها توسيع الغالبية البرلمانية الضئيلة التي حظيت بها في انتخابات 2015، وهو ما كان يدعم مشروعها بالخروج من الاتحاد الأوروبي. لكن الانتخابات انتهت إلى إضعاف حكومة ماي وهي الضربة الأولى التي مهدت الطريق للهزيمة الكبيرة التي لحقت بحزب المحافظين.

رفض تياران اتفاق الخروج الذي قدمته ماي. التيار الأول هو حزب العمال وجميع المؤيدين لبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي. هؤلاء لم ينفكوا يطالبون بتصويت شعبي جديد يطرح مسألة خروج بريطانيا من جديد أمام الناخب البريطاني بعد أن تبين أن طريق الخروج سيتضمن عوائق كثيرة لن تصب في صالح الاقتصاد البريطاني. ولكن التيار السياسي المهيمن اليوم، حزب المحافظين، يرفض ذلك معتبرا الأمر انتهاكا لقرار اتخذه الشعب بصورة ديمقراطية ويستوجب تنفيذه من قبل الحكومة.

الفريق الآخر رفض الاتفاق بسبب رغبته في تقليص حجم التعاون الاقتصادي والتجاري مع القارة العجوز.

أدخلت تركيبة الرافضين تلك ماي في مأزق حقيقي إذ يتعذر إرضاء أي طرف من الأطراف الرافضة من أجل تأمين مرور الاتفاق في جلسة تصويت قادمة تتطلع لها ماي. ولكن ما هي إستراتيجية ماي لتحقيق ذلك؟ أغلب الظن أنها سوف تعود إلى الاتحاد الأوروبي لعقد المزيد من المفاوضات وتعديل الاتفاق بما يمكن أن يرضي أعضاء حزبها. ولكنها تعرف أن الاتحاد الأوروبي لن يقدم أي تنازل يغير من المعارضة الشديدة للاتفاق.

يتمثل السيناريو الآخر في الانسحاب من طرف واحد أو ما يسمى بـ”الخروج القاسي”، وهو سيناريو يخشاه الأوروبيون، خصوصاً الدول التي تمتلك تعاملات اقتصادية كبيرة مع المملكة مثل أيرلندا وفرنسا وألمانيا، وهو ما قد يدفع ماي إلى استخدام هذه الورقة في حال استنفدت جميع خياراتها. ولكن لرئيسة الوزراء مخاوفها من هذا الخيار، خصوصاً النتائج السلبية على الاقتصاد البريطاني وهو ما قد يتسبب بردة فعل شعبية وانقسامات عميقة داخل حزب المحافظين.

ربما يأتي الحل من خارج الحكومة البريطانية من خلال الأقلية العمالية في البرلمان البريطاني والأغلبية الشعبية خارج البرلمان التي تتجه أكثر نحو تفضيل البقاء داخل الاتحاد الأوروبي. ففي آخر استطلاع للرأي، تراجع الدعم للخروج من الاتحاد الأوروبي إلى 40 في المئة فقط.

تسير الحكومة البريطانية على خيط رفيع وهي مهددة بالانهيار في أية لحظة. لقد فشلت قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي بصورة مزرية. فبعد سنوات من تحشيد البريطانيين ضد الاتحاد الأوروبي واستخدام طبقة من المثقفين والاقتصاديين لتحميل الاتحاد مسؤولية تدهور الاقتصاد البريطاني، اتضح الجهل المحيط بتلك الطبقة. لقد ظهر للعيان وعيها المحدود بالاتحاد الأوروبي وقوانينه الظاهرة والضمنية، وبحجم الترتيبات الاقتصادية والتجارية بين بريطانيا والاتحاد، وبالأزمات السياسية التي ستخلقها قضية الخروج مع الدول المكونة للمملكة المتحدة، أي أيرلندا الشمالية واسكتلندا وويلز. اليوم أنتجت تلك الطبقة عملها النهائي بعد سنوات من النقاش والعمل. إنه اتفاق احتل المكانة الأقل شعبية في تاريخ بريطانيا الحديث.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: