الإسلام السياسي.. نتاج الخرافة والغوغائية

لا شك أنّ مجتمعاتنا ضاربة بعمق في تخلّفها، والمسلمون من أكثر الشعوب انغلاقا على أنفسهم ورفضا للآخر المختلف، وهذا يزيد الأمور تعقيدا، ويُظهر أن لا جدوى من بحوثنا العلمية والأكاديمية التي تعالج الأديان عموما، والإسلام بصفة خاصة، لكن الأمر ليس مطلقا إلى هذا الحد؛ لأن عصرنا اليوم يشهد فتح ملفات الماضي والحاضر كلها، ومنها الملفات المقدّسة، وهو أمر يزداد مع ازدياد حرية الإنسان في التفكير، وفي التعليم وفي الاتصال، وكل هذا يجري متصاعداً، رغم كل العوائق التي توضع أمامه. ولذلك، أتوقع أن تهدأ زوابع التطرّف في قبول كل هذا أو رفضه، وتحلّ محلّها النظرة العلمية الجادة الفاحصة بحيادية ودون تعسّف.

بماذا يمكن أن نفسر هذه الردّة الاجتماعية التي تقف ضد التحضّر والعلم لصالح الدين وشعاراته؟ السبب مجتمعيّ بالدرجة الأولى، وهو ما شجّعَ المؤسسات الشرعية ورجال الدين على إذكاء الموقد، ورمي الحطب فيه، كل هذا جرى؛ لأننا مجتمعات عاطفية، غير عقلانية وغير علمية؛ بل نحن مجتمعات غير مبنية بطريقة حديثة أو معاصرة، وإنما بطريقة قروسطية (نسبة للقرون الوسطى)، فحللنا ضيوفا ثقلاء على العصر الحديث.

عطبُنا ليس سلطويّا أو سياسيّا فقط، بل هو مجتمعيّ بالدرجة الأولى، وما يجري في المناطق الساخنة من عالمنا العربي يؤكد ذلك. وما لم تراجع مجتمعاتنا أنفسها وتبدّل من طريقة نظرها للحياة والدين والعلم في هذا العصر، فإنها ستلاقي مصيرا داميا باستمرار، وقد يوصلها هذا للانهيار والتداعي في النهاية.

هول ما نحن فيه. أول مجتمع في التاريخ كالمجتمع السومري لم يفعلها، ولم يخلط الخوف بالواقع لينتج الخرافة، ونحن بعد أكثر من 5000 عام، آخر مجتمع في التاريخ نفعلها، إنّ التدين المتزمّت المغلق أنتج كل هذه الخرافات، وسيبقى ينتجها؛ لأنه يريد ألا يتفكك في هذا العصر أمام معطيات العلم والتحضّر. والتدين تعرّض في عصرنا هذا لامتحان جديد وضعه أمام خيارين؛ إمّا أن يراجع نفسه ويتحرر من انغلاقه وعقده وتأريخه الدمويّ، وإمّا أن يعيد إنتاج الخرافات القديمة بطرقٍ مختلفة، وقد اختار المجتمع ورجال الدين الحلّ الثاني. وهكذا، وجدنا أنفسنا في أكثر الأنفاق عتمةً، بينما تزداد الشعوب تحضّراً وعلماً ويزداد رقيّها.

ما حصل في هذه الفترة درسٌ لنا جميعاً كي نعيد النظر جذرياً بهذا الأمر، يجب وقف الإسلام السياسي كليّا وجعل الدين أمرا شخصيا، يجب وقف هذا التيار الغوغائيّ الذي يتلاعب بحياتنا ومستقبلنا، نحن نستحق مستقبلا أفضل، فذات يوم كنّا أكثر تقدّما من كل الشعوب التي حولنا، لكننا أصبحنا بسبب التعصب الدينيّ من أكثر الشعوب تراجعا.

ولا شك أنّ ما يحصل له جذور في ماضينا، فقد ضرب الفقهاء والمتطرفون دينياً بكل العلوم والفلسفات والاجتهادات المدنية، فحاربوها وسفّهوها وطاردوا أهلها. وبذلك انحدرت الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط وما بعده، ونحن اليوم، نشهد صعود ذلك الماضي الحزين المكفهرّ وهو يشهر سيوفه علينا ويركض وراءنا.

في التاريخ القديم (منذ الألف الرابع قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي) لعب الدين دوراً مهماً مع القومية والاقتصاد في تكوين الحضارات القديمة. وكان الدين في أغلبه متعدّد الآلهة. أما في التاريخ الوسيط (منذ القرن الرابع الميلادي إلى منتصف القرن الخامس عشر) فقد لعب الدين الشموليّ “التوحيد” الدور الأكبر في تكوين الحضارات الوسيطة في العالم وهي ثلاث (البوذية، المسيحية، الإسلامية) وهضمت هذه الديانات الثلاث الحضارات القديمة في داخلها، وكان الدين هو العلم الكليّ آنذاك.

وحين كان العلم الوضعي يشرع في النموّ والتقدّم، كان يصطدم مباشرة بالسقف الديني وينتكس. ولذلك صارت الأديان الشمولية حاضنة كلّ شيء، وكان الخروج على هذه الحاضنة يعدّ كفراً والشواهد كثيرة في هذا المجال.

عندما حلّ التاريخ الحديث (منذ القرن الخامس عشر وإلى منتصف القرن العشرين) تخلّى روّاد عصر النهضة في أوروبا عن الشمولية المسيحية في كل مناحي الحياة، واستمر المفكرون والعلماء بتصعيد هذا الموقف أمام الكنيسة. وحين وصلنا إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر انهارت الكنيسة والدين الشمولي (المسيحي) وانتصر الغرب العلمانيّ المادي.

ثم ترسخّت الحضارة الغربية التي كان عماد انتصارها العلم وليس الدين، العلم الوضعي الذي غزا كل مناحي الحياة ونظّمها، وبدا كما لو أنّ الإنسان خرج من كهوف مظلمة إلى النور، وانتشر نور العلم والتكنولوجيا في العالم كله إلى يومنا هذا الذي نكتب تحت نوره هذه الكلمات، ونوصلها للعالم كله بيسر.

حصل هذا في الغرب، لكنّه لم يحصل في الشرق، الذي ظل خائفاً على دياناته الشمولية وقومياته التي كانت تعبّر عن خصوصياته، ولذلك أصبح العلم عدوّا لها، أو لنقل أصبح وسيلة للاستهلاك والترفيه، ولم يتحوّل إلى منهج شامل في حياة هذه الشعوب. وسأقول بكل صراحة إنّ أكثر الشعوب الشرقية انغلاقا وخوفا وتعاليا هم المسلمون، وأكثر المسلمين انغلاقا وخوفا وتعاليا هم العرب.

النظرة للمستقبل القريب في عالما العربي ليست مطمئنة أبداً، فما حدث ويحدث في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا ممّا أفرزته صراعات الإسلام السياسي بشقيه السنّي والشيعي، وحالة التصادمات العنيفة بين الكتل المتشددة فكريآ لم تأت من فراغ بل هي نتاج انغلاق تحوّل إلى تصلّب وصل إلى عنف، الإسلام السياسي، الذي يحاول الإخوان المسلمين وكذلك النظام الإيراني ركوب صهوته للوصول إلى السلطة، يمثّل عامل التدمير الأول والأكثر شراسة للشعوب الإسلامية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: