مواطنون دون مواطنة سجناء ينتظرون الحرية
ما قيمة الوطن بلا ميزات المواطنة، إنه بمثابة سير في طابور طويل من المصفقين والمهلّلين للحاكم الأعظم مع انتفاء لكل الحقوق. لذلك أصبح الجميع يبحثون عن الخلاص بأي شكل متمثلا في الحصول على جنسية بلاد أخرى يتمتعون فيها بمواطنة غائبة في بلادهم.
تأمل هند السورية (35 سنة) في أن تحصل على الجنسية البلجيكية بعد مضي أكثر من 5 سنوات على إقامتها في بروكسيل.
وتبدو هند، المتزوجة من مغربي وأم لطفلين، فخورة جدا بسوريتها، لكنّ طفليها ليسا سوريين رغم ولادتهما في سوريا لأن القانون السوري يمنع منح المرأة السورية جنسيتها لأبنائها. وتؤكد أنها تريد الجنسية حتى تكون أسوة بأبنائها في المستقبل، فلو قدر واستقروا في بلجيكا يمكنها زيارتهم متى أرادت.
وفي المقابل، لم يحصل محمد المغربي على الجنسية البلجيكية رغم استيفائه كل الشروط والتقديم للحصول عليها مرتين.
وفي العادة لا يعتبر الحصول على جنسية دولة عربية “حلما”، لكن الحصول على جنسية بعض الدول الأوروبية أو غيرها يعتبر “أملا” و”حلما” يراود الكثيرين، ذلك أنه المفتاح لتحقيق حياة مستقرة وكريمة.
قطيع التصفيق
من أثينا القديمة إلى جنوب السودان كانت ولادة شخص لأبوين محددين أو في منطقة معينة هي المعيار الأساسي للحصول على الجنسية. وتأتي كلمة “nationality” الإنكليزية التي تعني الجنسية ومشتقة من الكلمة اللاتينية القديمة “nasci” التي تعني الولادة.
وتقول جاكلين ستيفينز، أستاذة العلوم السياسية في جامعة نورث وسترن، وهي مؤلفة كتاب “دول بلا أمم مواطنة للبشر الفانين”، إن “المواطنين يصنعهم السياسيون. ويتم خلق المواطنين لأن المواطنة وجدت لتسكين المخاوف البشرية من الموت، ذلك أن انتماء المرء إلى مجتمع يحافظ على أوهام الخلود”. وتؤكد أن “المواطنة تجسد رحلة المجتمعات الجماعية هربا من الموت”.
وترجمت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي هذه المقولة حينما هاجمت في أكتوبر 2017 معارضيها قائلة “إنهم لا يعرفون معنى المواطنة وإنهم فقط يحملون الجنسية البريطانية”.
ووفقا لتقرير نشرته “الإيكونوميست”، فإن حامل جنسية بلد ما يعني أنه أصبح فردا في هذه الدولة. أما المواطنة فهي ذات مفهوم أكثر عمقا، فهي تعني علاقة قانونية خاصة بين الدولة والشخص، وبموجب المواطنة يمنح الشخص حقوقا ومسؤوليات خاصة.
يبدو مصطلح المواطنة هجينا أو مستغربا لدى البعض، والسبب في ذلك يعود إلى عدم وعي الناس بأبعاد هذا المصطلح.
واشتقت كلمة مواطنة في الأصل من كلمة المدينة أو “Polis” باليونانية، وكانت تعني ذلك على اعتبار أنّ المدينة حق من حقوق الإنسان فتسمح له بالمشاركة في شؤون بنائها، وكانت تستخدم أيضا ترجمة للكلمة الفرنسية “Citoyenneté” والتي تعني بالإنكليزية “Citizenship”. أما بالعودة إلى معاجم اللغة العربية، فإنّ المواطنة كلمة مشتقة من الوطن، وقد عرّفها ابن منظور بأنّها “المنزل الذي تقيم فيه”، والموطن هو “مشهد الحرب”.
ويرتبط مفهوم المواطنة بشكل عام بالحقّ في الإقامة والعمل والمشاركة السياسيّة ضمن حدود بلد ما، ويُشير هذا المفهوم أيضا إلى الانتماء لمجتمع يرتبط برباط اجتماعيّ وثقافي وسياسي واحد ضمن دولة معينة.
وأورد جان جاك روسّو في كتابه “العقد الاجتماعي” أنّ الفرد له حقوق إنسانيّة يجب تقديمها إليه، وفي المقابل فإن على هذا الفرد مجموعة من الواجبات والمسؤوليّات الاجتماعيّة وجبت عليه تأديتها.
ويتحقق مفهوم المواطنة بمجموعة من القيم تتمثل أساسا في ما صاغه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي رأى النور يوم 10 دجنبر 1948.
ولكن رغم مرور سبعة عقود على صدروه، إلا أن الانتهاكات الحقوقية لا تزال متواصلة في دول مختلفة وفي ثقافات شتى، ولا تزال أشكال العبودية القديمة منها والحديثة منتشرة في العالمين “المتقدم” والثالث.
ولفتت منظمة فريدوم هاوس في تقريرها لعام 2018، إلى تدهور الحريات والحقوق الأساسية في 71 دولة مقابل تحسنها في 35 دولة أخرى. وكشف التقرير أن 45 بالمئة من دول العالم تتمتع بالحرية و30 بالمئة منها “حرة نسبيا” و25 بالمئة من دول العالم تفتقر تماما إلى مقومات الحريات.
عربيا، تراجعت حقوق الإنسان منذ اندلاع ثورات “الربيع العربي” في دجنبر 2010 في أكثر من دولة. وقد أكدت فريدوم هاوس عام 2018 انتكاسة حقوق الإنسان في الدول العربية. وفي حين نجد في الدول الديمقراطية “مواطنة كاملة”، لا يعدو مفهوم المواطنة في الدول الدكتاتورية سوى “السير في قطيع التصفيق” دون المطالبة بأدنى حق.
ويربط البعض الاستبداد بطبيعة الأنظمة السياسية العربية، في مرحلة ما بعد استقلال الدول العربية الحديثة، حيث استلمت الحكم أنظمة جمّدت الحياة السياسية وهيمنت على مؤسسات الدولة وعظّمت دور الأجهزة الأمنية، ملغية المجتمع المدني.
ولطالما تخوف العرب من سلطات بلادهم التي ارتبطت في أذهانهم بأجهزتها المتشعبة المُعلَن منها والخفي، على مدى عقود كمصدر لتعذيب المواطنين ورصد حركاتهم وسكناتهم، سواء كانوا معارضين أو مواطنين عاديين.
وحتى في تونس عقب مرور 8 سنوات على الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، تسببت أنباء عن استغلال عقار خلف وزارة الداخلية للتجسس ولجمع أكبر قاعدة بيانات عن التونسيين في ضجة كبيرة نهاية عام 2017 لا في الأوساط السياسية والحقوقية فحسب بل وفي الأوساط الشعبية أيضا.
ونفت وزارة الداخلية التجسّس على المواطنين رغم قيامها بتنفيذ 90 بالمئة من مشروع تركيز كاميرات المراقبة في ولايات محافظات تونس الكبرى ومحافظات الكاف وجندوبة (شمال غربي تونس) والقصرين وسيدي بوزيد (وسط البلاد) على أن تكمل ما بدأته في نهاية يناير الجاري.
وفي نونبر الماضي، عمد بعضُ نواب البرلمان التونسي إلى تخريب كاشفاتِ الحرائق تحت قبة البرلمان، ظنا منهم أن تلك الكاشفات تُخفي كاميرات مراقبة في مشهد “ساخر” يكشف عمقَ الرعب الكامن في النفوس.
بلد للبيع
أعاد إعلان الرئيس العراقي برهم صالح، تخليه عن جنسيته البريطانية الجدل بشأن ازدواج الجنسية، خاصة للمسؤولين الكبار في العالم العربي.
ويعد برهم صالح أول رئيس جمهورية عراقي يتخلى عن جنسيته الأجنبية تطبيقا لدستور البلاد منذ العام 2003. وتنص الفقرة الرابعة من المادة 18 على أنه “يجوز تعدد الجنسية للعراقي، وعلى من يتولى منصبا سياديا أو أمنيا رفيعا التخلي عن أي جنسية أخرى مكتسبة، وينظم ذلك بقانون”.
ويطرح تخلي برهم صالح عن جنسيته البريطانية، إعمالا للدستور، إشكالية بالنسبة إلى العديد من المسؤولين العراقيين الكبار، الذين يحملون جنسيات بلدان أخرى، إذ يحمل رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي الجنسية الفرنسية، كما يحمل العشرات من المسؤولين والوزراء العراقيين، جنسيات إيرانية وبريطانية وأميركية وكندية وأسترالية وغيرها، وقد تغاضى معظم هؤلاء عن تطبيق الدستور على أنفسهم، ولم يقدموا على التخلي عن جنسياتهم الأجنبية ليكون الرئيس هو أول من يفعل ذلك.
ومن بين الدول العربية التي أجرت تعديلا، يمنع على المسؤولين الكبار الازدواج في الجنسية، الجزائر التي منعت وفق قانون مزدوجي الجنسية من شغل مسؤوليات عليا بالبلاد، سواء كانت عسكرية أو مدنية، في حين أن معظم دول الخليج لا تسمح بازدواج الجنسية، وتخيّر مواطنيها بين جنسيتها والجنسية التي يرغبون في الحصول عليها. ويسمح المغرب من جانبه بازدواج الجنسية للمواطنين ، وكان جدال قد أثير في مناسبات سابقة، بشأن تمتع البعض من الوزراء بجنسيات دول أخرى، أما الدستور التونسي فيقر حق الترشح لمنصب رئيس الدولة، لأصحاب الجنسيات المزدوجة بجانب سماحه للمواطنين العاديين بازدواج الجنسية.
وبات الحصول على الجنسية الأميركية حلما يراود الكثيرين من الفنانين العرب الذين يرون أنها أفضل بكثير من الجنسيات العربية التي لا تحفظ حقوق أطفالهم في ظل الواقع العربي المرير. وقبل موعد إنجابهم بأسابيع تسافر الفنانات والممثلات وغيرهن ممن “استطاعت إلى ذلك سبيلا” إلى الولايات المتحدة للإنجاب، لأنه طبقا للمادة 14 من الدستور الأميركي فإن الجنسية تُمنح لمن يولد داخل الحدود الأميركية.
أما بالنسبة لعامة الناس فإن الغربة أو السفر والهجرة تفتح على المستوى الفردي منافذ الخلاص من الاضطهاد بمختلف مظاهره.
ولعل الإحصائيات على صعيد البلدان العربية تكشف حجم الكارثة المتمثلة بالحرمان من القوى المهاجرة، فقد بلغ عدد المهاجرين العرب في الخارج أكثر من 35 مليونا يمثلون أكثر من 12 بالمئة من سكان الوطن العربي.
وما دامت عوامل الهجرة وأسبابها قائمة فإن نزيفها لن يكفّ بعد بل إنه ظل في تفاقم خلال العقود الأخيرة على خلفية مجمل الأوضاع التي تعيشها البلدان العربية، وفي مقدمتها القمع والإرهاب الديني والسياسي وانتشار الفقر.
وباتت أغلب الدول توفِّر الجنسية مقابل منافع تحصل عليها هذه الدول، فيما يمكن أن يطلق عليه “شراء الجنسية”. ويتم الأمر بشكل ناعم، فعملية البيع تتم عادة تحت لافتة “الجنسيّة مقابل الاستثمار”. وسلّط صندوق النقد الدولي الضوءَ على النمو السريع لهذه البرامج، مشيرا إلى أنه في المناخ الجيوسياسي الحالي يبحث الناس عن “ملاذات آمنة سياسية واقتصادية”.
وفي آخر إحصاء في هذا الإطار، تطرح 23 دولة، من قبرص إلى سنغافورة، نوعا من البرامج للحصول على الجنسية عن طريق الاستثمار، وتنتشر مثل هذه البرامج على مستوى أوروبا أيضا. وحاليا، تمنح حوالي نصف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي برامج معينة للحصول على الإقامة أو الجنسية عن طريق الاستثمار.
وفي الشرق الأوسط بشكل خاص، فإن عدم الاستقرار دفع العديد من الناس للبحث عن جنسية ثانية. ويستفيد الحائزون على الجنسية من القدرة على نقل العائلات بشكل دائم إلى دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وتوسيع قدرتهم على السفر دون تأشيرة لعدد كبير من الدول.
لكن تلك البرامج تثير جدلا واسعا من وقت لآخر، ويقول منتقدوها إن الجنسية لا ينبغي أن تباع وتشترى.
ويقول منتقدو برنامج الحصول على الجنسية بالاستثمار، إن مثل هذه البرامج مصممة للأثرياء فقط، بينما تعتبر مجحفة بحق غيرهم.
لكن في عالم تغلق فيه الحدود، من الأرجح أن يتزايد الطلب على هذه الخدمات والبرامج، كما يقول الخبراء.
وحلّ المغاربة في صدارة من ظفرُوا بجنسيات البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عام 2014، من خلال 86 ألفا و500 مغربي جرى تجنسيهم، وفقا لتقرير “أورُوستَاتْ”.
وتقدم شركة الاستشارات “سي أس غلوبال بارتنرز” في لندن، نصائح وإرشادات للمستثمرين عن الخطوات القانونية للحصول على جواز السفر عن طريق الاستثمار. وتقول الشركة إن الاهتمام بخدماتها زاد أربعة أضعاف خلال العام الماضي.
وتقول ميشا إيميت المديرة التنفيذية للشركة “نلحظ تحولا كبيرا بالتأكيد، فالسوق التقليدية مازالت قائمة. لكننا نرى أناسا من بلدان لم تكن يوما من الأيام مهتمة بالحصول على جنسية ثانية عن طريق الاستثمار، يستفسرون عبر الإنترنت عن طريقة الحصول على الجنسية. فعلى سبيل المثال، رأينا زيادة بلغت 400 بالمئة في الاستفسارات من تركيا خلال شهر مارس”.
ورغم أنه لا يعني حمل شخص ما لأكثر من جنسية أنه سيعيش في دول متعددة، فإن بول وليامز من شركة “لافيدا جولدن فيزاز” المتخصصة في إصدار جنسيات وإقامات مزدوجة داخل أوروبا، يقول إن تجارة الجنسية وجوازات السفر يمكن النظر إليها كمؤشر ومقياس للاضطراب الذي يشهده العالم.
ويضيف وليامز أن “غالبية زبائننا لا يذهبون للعيش في البلد الذي يستثمرن فيه. فهم ينظرون للبلد الذي يستثمرون فيه كمكان للعيش عند الحاجة. فهم يعرفون أنهم يملكون جنسية ثانية، فإذا اضطروا إلى ترك بلدهم والانتقال لبلد آخر، فلديهم ذلك الخيار”.