فلاديمير بوتين يلعب الشطرنج مع العالم على رقعة الشرق الأوسط
يواصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تغيير العالم. وهو الذي صدرت حول شخصيته وفكره العشرات من الكتب والمئات من الأبحاث خلال السنوات القليلة الماضية، كلها تتوقف عند صعود فلسفة حكمه التي تستحق أن تسمّى بـ”البوتينية” والتي هي في جوهرها نهجٌ يهدف إلى “استعادة روسيا الإمبراطورية”.
ولد هذا التوجه ذات يوم في اجتماع لعدد من المثقفين الروس عقد في العام 1999. وصدرت عنه وثيقة هامة أشرف عليها غيرمان غريف الذي يشغل اليوم منصب مدير مصرف سبيربنك أكبر المصارف الروسية، وهو صاحب نظريات مذهلة تتحدث عن المستقبل، مثل نظريته حول انتهاء عصر النفط، التي طرحها في منتدى “غيدار” الاقتصادي السنوي في موسكو، حين قال إن “العصر الحجري انتهى ليس لنفاد الحجارة، والشيء نفسه يمكننا قوله حول عصر النفط”.
تقول وثيقة غريف التي غدت دليل عمل لبوتين لاحقا إن “روسيا تمر اليوم بأعظم أزمة في تاريخها، وإن كافة مواردها ومقدراتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية ينبغي حشدها لتمكين البلد الموحد من التغلب عليها. البلاد بحاجة إلى شعور جديد بالمسؤولية، إلى مشروع روسيا الجديدة. هذا المشروع الروسي الجديد ينبغي له أن يشكل الأساس لسياسة الدولة، وأساسا للتضامن بين الروس”.
ولعلّ كثيرين من قراء التحولات الاستراتيجية والجيوسياسية في العالم ينظرون إلى بوتين على أنه ظاهرة حقيقية، أحدث تغييراً كبيراً في بلده وفي العالم، بفضل السياسات غير التقليدية التي يتبعها إزاء الملفات الثقيلة والهامة التي لا يتردد بوتين في زج روسيا في أتونها مهما كلف الثمن، وغالباً ما يكون الثمن المزيد من المكاسب الاستراتيجية والاقتصادية لروسيا كل مرة.
البعض يقول؛ انظروا إليه. لقد خرج بوتين منتصراً في سوريا، بينما يظهر الرئيس الأميركي مهزوماً ومندحراً في نقاط التماس الحارة، انظروا إلى بوتين كيف فرض إرادته في القرم، وانظروا إلى ترامب وهو يصارع أجهزة الدولة الأميركية الواحد تلو الآخر، ولكن ما السبب في غرق ترامب في تحقيقات لا أول لها ولا آخر قد تودي به وبمنصبه؟ إنه بوتين أيضاً، واتهام ترامب بالتنسيق مع الروس أثناء حملته الانتخابية.
العرب والغرب المنحسر
عربياً، لم يتردد بوتين في التفاعل مع من أراد التفاعل معه، وكان وفياً لحلفائه، على النقيض من الحليف الأميركي الذي يعطي الدرس لحلفاء أميركا بأن واشنطن لا أصدقاء لها.
نعم لقد أثبت العرب مرة أخرى أنهم يراهنون على الحصان الخاسر. وصحيح أنهم أهدروا مليارات الدولارات على استثمارات خاسرة، ولو فعلوا هذا مع بوتين لكانت النتائج غير ما نرى الآن.
ولكن من قال إن العرب بوسعهم أن يختاروا الحصان أساساً؟ لم يكن بوتين جالساً في الكرملين رافضاً للتدخل في الشرق الأوسط، بل كانت فرقه السياسية والدبلوماسية تعمل هنا وهناك لتنشيط دور روسيا، وخلق فكرة “دور بوتين الضروري”؛ لافروف الذي يتصرف بحريته ضمن برنامج صارم لا يتدخل فيه الرئيس لكنه يصب في نهاية الأمر في صالحه، بوغدانوف الذي يضفي بصمات الروح الإمبراطورية على جميع الملفات التي يكلف بها، شويغو في الحرب أيضاً، وآخرون غيرهم ينتشرون من أقصى شرق آسيا مروراً بالشرق الأوسط ووصولاً إلى أميركا اللاتينية.
يحفر بوتين دوما تحت السجادة التي يقف عليها الأميركي. ولا يكاد يعلو صوت تصريح للخارجية الأميركية إلا ويليه تصريح آخر روسي، مناقض ومتحدٍ، يخبر الأميركيين والعالم بأن بوتين حاضر هنا وهناك.
وجد العرب أن تجربة المئة عام الماضية التي جمعتهم في تحالفات مع الغرب الأميركي والأوروبي لم تزدهم إلا خسراناً في جميع قضاياهم. فتراجعت القضية الفلسطينية حتى أصبحت قضية أمنية مشتّتة الأهداف والهويات، وتفككت دول وكيانات عربية كانت حاضنة للمصالح الغربية، وإذا بالغرب يتخلى عنها من أجل مصالح أكبر، كما في الحالة الليبية، وخسر العرب سوريا بالتعويل على وعود أصدقاء الشعب السوري الذين بلغ عددهم أكثر من ثمانين دولة تتصدرها أميركا، كل هؤلاء لم يتمكنوا من هزيمة المشروع الإيراني في سوريا وقبلها العراق ولبنان واليوم في اليمن. لكن بوتين أصبح في قلب اللعبة ويمكنه أن يفعل الكثير إن حاول العرب التفكير بصورة غير نمطية.
وإن كان لا بد من نظرية استشراقية يتعامل بها الأقوياء مع العرب، فإن نظرية بوتين تبدو أكثر رحمة من استشراق الغرب الذي قدم لنا نموذجاً صارخاً في العراق. وكرره في ليبيا، وأراد تكراره في أكثر من بقعة، لولا بوتين.
الأميركي يعلن صراحة قراره بالانسحاب التدريجي ليس من سوريا فقط، بل من الشرق الأوسط كله، وهذا قرار يجري تطبيقه على قدم وساق منذ عهد إدارة أوباما، وحتى هذه اللحظة. والأوربيون يعالجون جراح أمّهم العجوز واحتمالات تفككها وتصدع القوة الاقتصادية التي يمثلها اتحادهم، وبالكاد يكون لتدخلهم أثر ملموس في ملف عالمي خارج القارة، المهم لديهم أن يبقى الاتحاد والمهم أكثر أن تحفظ مصالح الاتحاد الاقتصادية والأمنية. وليذهب العالم إلى الجحيم. لكن بوتين لا يفكر هكذا.
الأتراك يريدون استعادة مجد العثمانيين، عبر مشاريع الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يحاول أن ينجو من تناقضات بلاده الداخلية، وصراعه المفتوح مع ملايين الأتراك الذين لا يرون مستقبل تركيا كما يراه الإسلام السياسي الذي يمثله أردوغان وحزبه. أردوغان الذي لا يخفي نهمه في أن يكسب المزيد من الكعكة الشرقية، سواء في الخليج، حيث يضغط أكثر على قطر أو في التعامل الانتهازي مع السعودية وابتزازها المستمر، أو في سوريا التي يعلن مسؤولو أردوغان صراحة أن مناطقها الشمالية هي أجزاء من ولايات عثمانية تاريخية وأن حقهم فيها لا رجوع عنه، لكن بوتين هناك.
إيران ووعد بوتين
إيران التي تحتل أربع عواصم عربية لم تقل يوماً إنها تريد الحوار مع جيرانها العرب، لكن العرب يكتفون بالنحيب من تقدم النفوذ الإيراني، في العراق يعتقد بعض العرب أنهم بمد اليد إلى من تبقى من السياسيين العراقيين شبه المستقلين سوف يمكنهم بذلك استعادة العراق من براثن إيران. لكن هذا الحلم يشبه حلم إبليس بدخول الجنة من جديد بعد طرده منها. غير أنه حلم ممكن مع حليف مثل بوتين.
في سوريا تكاد النظرية تنجح، وبقي أن يجري اختبار بوتين في التعامل مع الملف الإيراني هناك، لقد وعد بوتين العرب بإخراج إيران بعد القضاء على الفوضويين والإرهاب الإسلامي المتطرف واستعادة الدولة المركزية، ليس حبا بالرئيس السوري بشار الأسد، فبوتين لم يتعامل معه مرة واحدة بتقدير كافٍ، ومستشاروه يكيلون للأسد عبارات مهينة باستمرار سرعان ما تنتشر في الصحافة الروسية والعالمية، لكن الأسد يمثل في نظر بوتين الدولة المركزية وهو مشروع لا يقبل بوتين المساومة عليه، إن أراد تحقيق وعده الذي أعطاه للعرب بطرد إيران في نهاية المطاف.
المزيد من الزلازل
ما الذي قدمه الغرب للعرب حتى الآن، لم يتردد في وعدهم بـ”فوضى خلاقة” لا تبقي ولا تذر. لكن بوتين لم يفعل ذلك، مد يد الصداقة إليهم من جديد بعد عشرات السنين من القطيعة مع العرب المعتدلين، عرب نظروا إلى الروس على أنهم الخطر الشيوعي الذي هابه الغرب، حتى من كان يتحالف منهم مع موسكو آنذاك، كان يزجّ بالشيوعيين العرب في السجون كي لا يشعر الروس بالطمأنينة. كان العرب في الحقيقة مستغرقين تماماً في الوهم الغربي، ولذلك لم يعدّوا العدة للحظة التي سوف يدير بها الغرب ظهره لهم ويتركهم نهباً للطامعين الإقليميين. لقد دفعهم الغرب إلى خوض حروب بلا نهاية، حتى أن تاريخهم الحديث يكاد يخلو من سنة سلام واحدة، دون أن يقدّم لهم فرصة واحدة ليخرجوا منتصرين، بل إنه كان يسلّح أعداءهم في غالب الأحيان، كما في فضيحة إيران غايت حين كانت أميركا تزود العراق بالسلاح علناً، وتزوّد إيران به سراً، في الوقت ذاته. فهل فعل بوتين ذلك؟
بصعود الديمقراطيين مجدداً في الكونغرس، سيزداد الضغط على ترامب، وسيواجه خلال نصف السنة الأول من العام الحالي 2019 احتمالات قد تكون غير متوقعة، وانعكاساتها على العرب سوف تكون أيضاً خارج الحسابات التقليدية، لولا أن لديهم خطاً استراتيجياً احتياطياً مفتوحاً مع بوتين.
ترامب لا ينظر إلى العرب إلا كخزان مليارات، ولا يستطيع الدفاع عن سياساته معهم إلا وفق هذا النهج وبهذه الذريعة أمام دافعي الضرائب الأميركيين، لكن بوتين لا يفعل هذا، هو يقدّم فلسفة مشتركة مع العرب، تلتقي مع مشروعهم لمحاربة الإرهاب والتطرف والبحث عن الاستقرار السكاني والتنموي أيضاً. وعلى قدر ما تبدو سياسة بوتين غير تقليدية إلا أنها سياسة أقرب إلى الطبيعية في العلاقات ما بين الحلفاء، فهي تبادل حقيقي للمصالح وليس كسباً دائماً تقابله خسائر دائمة كما في حالة أميركا والعرب.
ووسط هذه الأجواء تتقدم صفقة القرن، صفقة يرفضها البعض من العرب ويقبل عليها البعض الآخر، لكنها ماضية، إن لم نحسب حساب وجود العامل بوتين في الشطرنج السياسي مرة أخرى، بوتين الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع الإسرائيليين، تكاد تكون أكثر مصداقية من تلك التي تربط إسرائيل بالغرب، وبإمكان العرب أن يجلسوا على طاولة تلك الصفقة وظهرهم محميٌ بحليف مثل بوتين، أليس هذا أفضل من وسيط منحاز مثل الوسيط الأميركي؟
بوتين الذي يحتاجه الغرب أيضاً
اللافت أن شخصاً لعب دوراً هاماً وحساساً في كل من واشنطن والعالم العربي، مثل الجنرال ديفيد بترايوس المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية لا يخفي إعجابه ببوتين، حتى أنه يصفه بـ”الهدية القيّمة لحلف الناتو”. لكن كيف ذلك؟
قال بترايوس في التاسع من يناير الجاري في مؤتمر “الحوار الروسي” إن وصول بوتين إلى السلطة منح الحلف سببا للبقاء. واقترح بترايوس واشنطن أن تتحدى “النظام الجيوسياسي الجديد”، بما في ذلك مساعدة حلف الناتو.
بوتين يدرك هذا، ويعلم أنه حين يزرع نقاط توتر في العالم أمام الدول التي تشكل تحديات حقيقية له، فإنه يقوم برسم خارطة جديدة للأرض، وهو لا مانع لديه من اندلاع حروب جديدة في ظل التقدم التكنولوجي الذي تشارك روسيا في سباقه اليوم، فهذه البلاد الكبيرة لم تعد مخزن خردة السلاح السوفييتي السابق، بل أصبحت تشن هجمات إلكترونية عابرة للحدود ومستوى الصناعات العسكرية لديها بات متقدماً جداً، ويمكن أن تخوض أي حرب الآن بعيدا عن أراضيها، في المياه الدافئة أو في غيرها. بل إنها، من أجل بوتين، دخلت في تشابك مع كبار العالم على مستوى مصداقية المعلومات ووجهت تهديدات لغوغل بمنع وصوله إلى روسيا، السوق العملاقة، ما لم يقم محرك البحث بحظر المواقع الإخبارية التي تنتقد بوتين، بحكم كونها مواقع تضر بمصالح “الوطن الأم”. وفي نهاية العام الماضي قامت الرقابة الفيدرالية الروسية بفرض غرامات مالية على شركة غوغل بسبب فشلها في الامتثال للقوانين التي تمنع المس ببوتين. يتوجّس الغرب من بوتين، ومع ذلك فقد اختارته اللوموند الفرنسية شخصية العام قبل عامين. ويخشى الألمان من أن يقفل عليهم بوتين حنفية الغاز، لكنهم يبقونه قريبا منهم، وهو الذي عاش بينهم سنوات في محطة استخبارات الكي جي بي التي كان يترأسها في ألمانيا الشرقية سابقاً.
صعود مدروس
داخلياً، وبتتبع ممتع لمسار بوتين، وبحسب الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيغليتز، أعاد الرئيس الروسي الحياة مجدداً للحلم الإمبراطوري الروسي، مستندا إلى ثلاثة دوافع؛ القومية السلافية، الثقافة الأرثوذكسية، والوطنية الروسية. وهي الدوافع التي تحرّك روسيا على خرائط العالم. ولم يرفض بوتين أياً من مكاسب روسيا الماضية، حتى الشيوعية منها، وهو يعتبر نفسه شيوعيا في الداخل رأسمالياِ في الخارج. لذلك نجح في تقوية دعائم الدولة وأجهزتها، وفي الوقت ذاته قاد مشروعاً هائلاً لتصحيح الأخطاء الأساسية للسياسات الاقتصادية الارتجالية التي وقعت فيها روسيا نهاية التسعينات، والتي تمثلت بالتركيز على الخصخصة أكثر من المنافسة، وعلى إعادة هيكلة المشروعات القائمة أكثر من خلق مشروعات ووظائف جديدة، وعلى تحويل الملكية إلى القطاع الخاص لخلق لوبي يدافع عن المشروعات الخاصة لمنع العودة إلى الشيوعية، والدفع إلى إنشاء مؤسسات تحكم السوق بدلا من التنافس، وتحرير الأسعار من دون تفكيك الاحتكارات السوفييتية.
واحد من أهم دارسي بوتين هو بن جودا الكاتب في نيوزويك الأميركية الذي عمل لثلاث سنوات كاملة على دراسة شخصية وفكر بوتين، لينشر كتابه الهام المعنون بـ”الإمبراطورية الهشة: كيف وقعت روسيا في حب فلاديمير بوتين وخرجت منه”. ويفسر بن جودا كيف أن الروس وقعوا، بالفعل، في علاقة متناقضة من الحب والكراهية، والدعم والرفض لبوتين في الوقت ذاته. فهو، من جهة، نجح في أن يستعيد مكانة روسيا الإقليمية والدولية: اقتصاديا، وعسكريا، وتكنولوجيا، ومنعها من الانهيار. ومن جهة ثانية استطاع أن يعيد بلورة صيغة روسية لرأسمالية الدولة التي تدير اقتصادا سوقيا. إلا أنه من جهة ثالثة: لم يستطع تقوية المجتمع الروسي وشفاءه من كثير من الأمراض. ولعل هذا آخر ما يهم العرب، سواء تجاه الروس أو تجاه العرب أنفسهم. فالمخاوف التي بدأ العرب يحسبون حسابها اليوم، كان بوتين قد واجهها قبل سنوات في غروزني في الشيشان، وعالجها بالطريقة ذاتها التي تدخل بها في سوريا، وطبق حلوله الأمنية فيها، وكان هو الآخر يخشى من عودة التصدعات إلى جمهورياته الإسلامية الروسية بانتقال عدوى ما عرف باسم الربيع العربي الذي تحوّل إلى حريق مدمّر.
هكذا بدت صورة بوتين في العام الماضي 2018 وهي صورة ليست بعيدة عن الواقع، فبقياس المكاسب، يبدو بوتين الرابح الأول، ليس فقط على مستوى جميع الرؤساء الذين مروا على تاريخ الكرملين منذ زمن القيصر، بل أيضاً قد يكون بوتين الكاسب الأكبر والوحيد في العالم في هذه الحقبة.