ترامب 2019.. إدارة الصراعات أم احتواؤها؟

قال حكيم “عندما تصلّي للمطر سيتحتم عليك التعامل مع السيول”. ويبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد أغرق إدارته في بحر من السيول. ففلسفة هذا الرئيس مبهمة عند الجميع، لذلك تمثل الجولة المكوكية لكل من وزير الخارجية مايكل بومبيو ومستشار الرئيس للأمن القومي جون بولتون محاولة احتواء تبعات استقالة وزير الدفاع جيم ماتيس، ولإقناع حلفاء الولايات المتحدة برؤيته المعدلة للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط القائمة على مواجهة إيران أولا. إلا أن لكل من حلفاء الولايات المتحدة موقفه الخاص من إيران بمن فيهم بعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى تركيا، مما سيجعل من مهمة الرجلين شبه مستحيلة خصوصا مع ضبابية مواقف الرئيس ترامب المتضاربة ليس من سوريا فقط، بل في كل الملفات الأميركية والخارجية.

جون بولتون هو رجل الرئيس القوي الآن، لذلك أوكل إليه أمر إسرائيل وتركيا. إلا أن المهمة ستكون في حكم المستحيلة في ما يتعلق بمايك بومبيو على ضوء ما تمخض عنه المؤتمر الصحافي المشترك يوم الأحد الماضي للمستشار بولتون ومضيفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خصوصا بعد تحديد الأخير أن الجولان سيكون ثمن موافقته على النظر في أمر القبول بتعديل مسار عملية السلام في الشرق الأوسط وليس في ما يخص احتواء إيران. فمن وجهة نظر نتنياهو، فإن أي قرار ستتخذه إدارة ترامب الآن سيكون محدود الأضرار بالمقارنة مع قرار اعترافها بالقدس عاصمة إسرائيل. وقياسا على ذلك، يمكننا تصور ما سوف تشترطه أنقرة للانخراط في مشروع ترامب المعدّل، فهل من الممكن أن تقبل تركيا بعمق أقل من منبج على ضفتيْ الفرات لتحيّدَ كل المخاطر المحتملة في ظل وجود كردستان العراق الماثل أمامها.

وحتى في حال تم الاتفاق على ذلك، ستبقى قضية تقنين أمر ذلك التواجد التركي الطويل الأمد على الأراضي السورية في حال تعذر اتفاق الثلاثة الكبار على ذلك (واشنطن، موسكو، وبكين). أما أوروبا، فإنها قد أدركت، بعد فوات الأوان، أن دورها التاريخي في الشرق الأوسط قد حُجّم حين اختارت هي لعب دور الرديف للولايات المتحدة منذ عام 2003. بل قد يتجاوز الأمر ذلك ليطال مصالحها في حوض البحر المتوسط.

وبالعودة إلى مسار جولة وزير الخارجية مايك بومبيو من منظور الرئيس ترامب، فإنه سوف يتعامل مع أصدقاء أكثر من كونهم حلفاء حقيقيين من المنظور الاستراتيجي الأميركي. لذلك ستتوجب عليهم رؤية الأمور استنادا إلى الواقعية السياسية خصوصا بعد تقديمه أكبر هدية سياسية بإخراج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران. والآن قد جاء الدور عليهم لرد الجميل والموافقة غير المشروطة على مشروع الناتو العربي بكل ما يمثله ذلك المشروع من خدمة للمصالح الاستراتيجية الأميركية، وأولها إنهاء العزلة المفروضة على قطر، بالإضافة إلى الموافقة على الرؤية المعدلة للسلام في الشرق الأوسط. وبقراءة متأنية لتصريح الوزير بومبيو بأن متابعة مستجدات قضية خاشقجي (محاكمة المتهمين في قضية مقتل جمال خاشقجي) هي أحد أهداف زيارته للرياض. فهل يُفهم من ذلك وجود نية للرئيس ترامب بإعادة استخدام قضية خاشقجي كرافعة سياسية في الضغط على الرياض في كل الملفات الآنفة الذكر.

قرار الانسحاب من سوريا هو العنوان العريض للجولة المتزامنة لكل من وزير الخارجية ومستشار الرئيس للأمن القومي، والتي توافقت مع إعادة نشر القوات الأميركية بشكل أكثر كثافة في العراق. فهل كان ذلك القرار بمثابة إجبار جميع الأطراف ذات المصالح المتقاطعة في سوريا على التعاطي مع الأهداف من حيث أولوياتها الاستراتيجية لا الإقليمية، لذلك يجب إلزام جميع الأطراف بالتوافق على ضرورة إخراج إيران من سوريا بكل الوسائط المحتملة دون استثناء الخيار العسكري، ومن ثم تحجيمها في العراق. ولا تنحصر تأثيرات القرارات الرئاسية المتسارعة على الشرق الأوسط وحده فقط، فقراره سحب القوات الأميركية من أفغانستان أفضى إلى تخلي طالبان عن كل المكاسب التي تحققت عبر محادثات أبوظبي، وهي تطالب الآن بنقل المحادثات إلى قطر.

نحن أمام مشهد هو أقرب للسوريالية منه إلى الواقعية في تعاطي الرئيس ترامب مع الملفات الكبرى في المنطقة. فهو لا يراعي الحدود الدنيا لتبعات سياساته من المنظور الجيواستراتيجي خصوصا في ما يتعلق بإدارة الصراعات أو احتوائها. فقد حيدت هذه الإدارة كل حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين وأهمهم أوروبا. وها هي الآن تتجاوز على مصالح شركائها الاستراتيجيين في الشرق الأوسط نتيجة سوء التقدير السياسي والذي ستكون له تبعات كبرى ليس على مستوى الاستقرار في الشرق الأوسط فقط، بل والأدنى، بالإضافة إلى المحيط الهندي، وشرق أفريقيا.

التحدي الأكبر الآن يكمن في شكل الموقف الذي ستعتمده الدول العربية التي تقع ضمن إطار جولة الوزير مايك بومبيو، فهل سيوفر التباين المحتمل في بعض الملفات بوابة خلفية يلج منها بومبيو، كما حقق ذلك الوزير جون كيري إبان ولاية الرئيس باراك أوباما. نحن ندرك كلفة السياسة إن توجب دفعها، بشرط أن تُدفع في مقابل تحقيق أهداف استراتيجية، ويجب أن نكون نحن من يحدد تلك الأهداف.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: