كيف حفر النظام الجزائري قبر المستقبل
يزيح التاريخ الستار عن الكثير من الحقائق التي تبين أن السلطة الجزائرية متواطئة في تمهيد الطريق للإسلام السياسي ليتغلغل في المجتمع الجزائري، ففي البداية وظف النظام الدين والقوى المحافظة بانتهازية ليضمن استقراره وبقاءه، لكن السحر انقلب على الساحر حيث اشتد عود الإسلاميين وأصبحوا مصدر ضغط على السلطة مدعومين بقوى ودول أجنبية. ولا يزال الجزائريون يعانون من تمكن الإخوان المسلمين من مفاصل التعليم والقضاء والسياسة كما بسطت القوى الظلامية هيمنتها على المجتمع، رغم هزيمتها العسكرية والانتكاسات العديدة التي منيت بها في المحطات الانتخابية الأخيرة.
لم تتوقف السلطة في الجزائر عن طريق سلسلة طويلة من التنازلات منذ الاستقلال عن تعبيد الطريق للإسلام السياسي، والذي أفرز بدوره الإرهاب البربري الذي بلغ مستوى كاد أن يطيح بالنظام ذاته ويعصف بالدولة الجزائرية كلها. ولا تزال الدولة برمتها تحت رحمة ضغوطه المعنوية والإرهابية.
لقد بدأت مساومات النظام في مسائل شكلية وخطابية، ولكن تحولت مع الوقت إلى تنازلات أساسية ملموسة. وقد باتت مؤسسات الجمهورية الجزائرية ملغومة جراء تلاعب السلطة واستعمالها للدين بل والمزايدة به من أجل البقاء في الحكم. وعلى عكس ما يقول أغلب المحللين، لم يكن ظهور الإسلاميين على الساحة السياسية في بداية تسعينات القرن الماضي وفوز حزب جبهة الإنقاذ الساحق مفاجأة في انتخابات 1990 البلدية ولا في الدور الأول من تشريعيات العام 1992، وإنما نتيجة حتمية لمواقف السلطة الانتهازية تجاه القوى المحافظة الدينية منذ العام 1962. وبمجرد أن ظهرت الأصولية علانية على الساحة السياسية وتمكنت من تحويل أغلبية دينية إلى أغلبية سياسية عن طريق الضغط والعنف وتواطؤ السلطة، وصلها الدعم المعنوي الخارجي من التنظيم الدولي للإخوان ومن نظام الملالي في إيران وغيرهما من قوى التخلف.
وهكذا ومن بلد كان يسير بخطى حثيثة نحو التحديث والحداثة، تحول بسبب حسابات سياسية وصراعات عصبية من أجل الريع وضغط الإسلاميين وعنفهم في ما بعد إلى بلد يهرول نحو التخلف ونشدان الحكم الثيوقراطي.
لقد فُتح المجال للإسلام السياسي منذ فجر الاستقلال، وبدأ ينشط بشكل رسمي تحت غطاء الجمعيات الخيرية والثقافية والاجتماعية. وربما خير مثال على ذلك جمعية “القيم الإسلامية” التي كان هدفها المعلن مقاومة “التغريب” في الجزائر، ولكن تبين في ما بعد أنها أم الإسلام السياسي الجزائري، بل أصبح الكثير من أعضائها من رواد الحركة التي أفرزت الجماعات الإرهابية المسلحة في الجزائر ابتداء من منتصف ثمانينات القرن الماضي. وقد عين رئيس هذه الجمعية الأصولية المبكرة أمينا عاما لجامعة الجزائر سنة 1963، وهكذا وضعت الجمعية قدما لها في قلب الحرم الجامعي فور تأسيسها وبدأت تقوم بدور المستقطب المنظم والجامع للإسلاميين.
لم تكن خطب علي بلحاج النارية التي بدأ يطلقها منذ سنة 1988 سوى الصدى لخطب مصباح حويدق المتشددة التي كان يلقيها في بداية الاستقلال (عام 1962) بمسجد الحراش شرق العاصمة دون أن يثير اهتمام نظام الرئيس أحمد بن بلة آنذاك.
بن بلة استقبل بأريحية المئات من الإخوان المسلمين الذين كانوا في سجون جمال عبدالناصر الذي تخلص منهم وأرسلهم في بعثات إلى الجزائر كمعلمين وأساتذة فزرعوا فكرهم بين الشبان الجزائريين، ولا تزال المدرسة الجزائرية تعاني من ظلامهم إلى اليوم حيث أن المعلمين الجزائريين متشبعون بفكر من كانوا أساتذتهم من الإخوان.
بمجرد أن ظهرت الأصولية علانية على الساحة السياسية عن طريق الضغط والعنف وتواطؤ السلطة، وصلها الدعم المعنوي الخارجي من التنظيم الدولي للإخوان ومن نظام الملالي في إيران وغيرهما من قوى التخلف
ومن المدرسة تسلل الإسلاميون إلى قطاع القضاء وفرضوا على المشرع الجزائري منع الجزائريين غير المسلمين كالمسيحيين واليهود من التمتع بالجنسية الجزائرية. وبعد القضاء انتقل اللوبي الإسلامي إلى مرحلة أخرى هي محاولة التسرب إلى مصادر القرار كالحزب الواحد آنذاك جبهة التحرير الوطني ومنظماته الجماهيرية ونقابته الوحيدة.
وقد كانت الزوايا في جزائر الاستقلال حاضنة لهذه الأصولية الصاعدة، وكان زعماؤها يطالبون بإرساء دولة دينية علانية ويقدمون كل أنواع الدعم لمن يعمل من أجل ذلك من الإسلاميين، تلك الزوايا التي يقدمها النظام اليوم كحامية للدين الصحيح من أجل استغلالها سياسيا كانت في أغلبها موالية للاستعمار بالأمس. وذهب النظام بعيدا في الأسلمة والأظلمة ابتداء من عام 1970 من أجل كسب ود الإسلامويين وأصبح ينظم حملات رسمية ضد تردي الأخلاق وتقهقر القيم. وقد تم أثناء تلك الحملات محاكمة شبان وشابات بتهمة الإخلال بقيم المجتمع بمجرد جلوسهم معا في الحدائق العامة أو السير معا في الشوارع أو ارتداء بعض الملابس.
ولإسكات أصوات الحداثة في الجزائر تم في عام 1971 حل ومنع الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين والقبض على عناصره المسيرة والزج بهم في السجن. وكان ذلك انتصارا للإسلاموية التي شهدت انتعاشا كبيرا بين 1970 و1975، حيث أسست أكثر من 100 جمعية أغلبها مستلهم من فكر وتجربة جمعية القيم الإسلامية المذكورة سابقا المحظورة منذ 1966.
وجاء الميثاق الوطني سنة 1976 كهدية من السماء بالنسبة للأصوليين، هذه الوثيقة الأيديولوجية التي فرضها الرئيس هواري بومدين عن طريق نقاشات شعبية توصي بالحرف الواحد بـ”ضرورة تقوية المواد الدينية وجعلها أساسية في البرامج الدراسية” وهكذا تحولت التربية المدنية إلى تربية دينية أصولية بحتة.
وفي سنة 1980 عين الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد الإخواني المصري محمد الغزالي كمستشار له للشؤون الدينية، ولم تمر سوى 4 سنوات حتى تم فرض قانون أسرة ضرب الجزائريات في الصميم وحرمهن من حقوقهن الأساسية وجعل منهن قاصرات ومواطنات من الدرجة الثانية.
راح البلد ضحية سم أفعى ذات رأسين: واحدة انتهازية وأخرى أصولية، وإن تصارعتا سياسيا وعسكريا فثقافيا وفكريا كانتا دوما متحالفتين ضد الحرية وكل انفتاح ديمقراطي
وفي سنة 1988 ومع انتفاضة أكتوبر العارمة في الجزائر ظهر التيار الإسلاموي كقوة سياسية منظمة تملك من الإمكانيات المادية والبشرية ما يؤهلها للاستيلاء على الحكم بالقوة وصندوق الاقتراع. وأصبح ممثلا بحزب رسمي هو حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية الذي أوصل البلد بمعية النظام إلى الكارثة الأمنية والاقتصادية والأخلاقية التي تتخبط فيها الجزائر اليوم.
وإن انهزمت الإسلاموية عسكريا واستسلم عساكرها تحت مسميات مختلفة كما انهزمت بالمقاطعة وضعف عدد الأصوات في صناديق الاقتراع بمناسبة الانتخابات التشريعية التي جرت في بداية مايو 2017، فإنها انتصرت ثقافيا في الجزائر إذ سمح لها النظام ببسط هيمنتها على المجتمع وقد يتحول ذلك الانتصار الثقافي إلى انتصار سياسي في قادم الأيام وتلك هي استراتيجية الإخوان منذ نشأتهم.
وعموما، راح البلد ضحية سم أفعى ذات رأسين: واحدة انتهازية وأخرى أصولية، وإن تصارعتا سياسيا وعسكريا فثقافيا وفكريا كانتا دوما متحالفتين ضد الحرية وكل انفتاح ديمقراطي يضمن إرساء حقوق الإنسان بمواصفات عالمية في الجزائر.
وكل المؤشرات تدل على أن ذلك التحالف لا يزال قائما وسؤال الرئيس محمد بوضياف المغتال بتواطؤ العدوين الصديقين مازال راهنا: الجزائر.. إلى أين؟