ناقد مغربي يقدم درسا في كتابة الرواية الغرائبية

ما نقرأه اليوم من تغريب في الرواية العربية يحيلنا إلى مفهوم روجير سيويس حول تداخل الواقعي بالغرائبي، وسببه كما يرى، أن كثيرا من ممارسات الواقع خرجت عن المعايير المنطقية، وتجاوزت القوانين العلمية. فتجلى ماهو غير طبيعي، كانكسار في تماسك الواقع، وحلول الطارئ محل المتوقع من الأحداث.

في كتابه “الغرائبية في الرواية العربية”، الذي صدر عن دار فضاءات الأردنية مؤخرا، تناول الناقد المغربي محمد أقضاض قضية الغرائبية في الأدب من خلال العديد من الروايات العربية، التي صدرت حديثا.

وحصر الناقد شروط تودوروف لكتابة رواية غرائبية في ثلاث ركائز، أولا أن يجعل القارئ يعتبر عالم الشخصيات هو عالم لأشخاص واقعيين، وأن يتردد بين تفسير طبيعي وفوق طبيعي للأحداث في النصّ. ثم أن يجعل هذا التردد ذاته تشعر به الشخصية في النص بنفس طريقة شعور القارئ، ويجعل دور القارئ الثقة في الشخصية المحورية وترددها. ختاما بالركيزة الثالثة ألا وهي أن يجعل الكاتب القارئ يتخذ موقفا محددا تجاه النص، برفض التأويل المجازي والشعري له.

وعندها سيعتبر القارئ عالم الشخصيات، مهما كان غرائبيا، عالمه الذي يتحرك فيه مع أشخاص آخرين، لذلك سيعاني من التوتر، والتردد تجاه إمكانيّة تفسير أو عدم إمكانيّة تفسير الأحداث التي يعيشها مع الشخصيات في النص. وعرف الأدب الغرائبي في السرد عن غيره باعتماده على إدماج عناصر لكائنات، وأحداث فوق طبيعية وغير واقعية ولا مألوفة في السرد الواقعي، فيورث قلقا، وارتيابا وتوترا وخوفا ورعبا في المتلقي.

الكتابة الغرائبية

وضح أقضاض ثيمات الرواية الغرائبية، كما ذكرها الفرنسي روجي كايوا، كالتعاقد مع الشيطان المقتحم لعالم الشخصيات أو يستخدم روحاً متعبة في حاجة إلى راحة، فتتوهم بوجود الأشباح، أو يختار الموت المشخص في كائن أو في شيء ما، أو يصف في الرواية الشيء الغريب، الذي يؤدي إلى الموت أو يكتب عن الموتى المنبعثين بعد موتهم، أو مصاصي الدماء الأحياء. وفي بعض الروايات يختار الكاتب تمثالا تتلبسه الحياة أو شر ساحر أو المرأة ــ الشبح ــ الغاوية والمهلكة. وبعض الكتاب يفضلون تداخل الحلم والواقع أو اختفاء منزل أوغرفة من مكانها أو توقف أو تكرار الزمن.

والكتاب النقدي الجديد بأجزائه الخمسة يقدم للروائيين العرب كيف تُكتب الرواية الغرائبية الجيدة، لتجاوز الأخطاء البنيويّة التي يقعون فيها عند كتابتهم لهذا اللون.

درس نقدي في كتابة الرواية
درس نقدي في كتابة الرواية

تناول الناقد نماذج دراسته من الأدب الروائي الغرائبي العربي، مما كتب حديثا، كـ”مياه متصحرة” للكاتب العراقي حازم كمال الدين، حكى “كاتبها” قصته بعد موته، أي أن السارد “ميت ــ حي” وهذا فوق الطبيعي فيها، وهو من الأخطاء البنيويّة التي يقع فيها كتاب الغرائبية العرب، بالرغم من تبرير هذه الثنائية، التي يعانيها البطل، بإيمان المتدينين، الذين يرون أن بعد الموت حياة أخرى.

وفي”نزلاء العتمة” للأردني زياد أحمد، تناول الكاتب الحياة بعد الموت، وقبل زياد أحمد تناول هذه الثيمة كثيرون، منهم دانتي في”الكوميديا الإلهية”والمعري في”رسالة الغفران”، ويوكي راما تشاركا في”الحياة ما بعد الموت”، والمصري عبدالحكيم قاسم في “طرف من أخبار الآخرة”.

في رواية زياد أحمد نجد بوابتين للآخرة، إحداهما تطل على البر لتستقبل أموات البر، والأخرى تطل على البحر لتستقبل أرواح الغرقى في البحر. وجسد الكاتب حيوات الأموات، وانشغالاتهم، كما لو كانوا أحياء، وهذا خطأ بنيوي آخر. ووضع في الرواية ثلاثة مواقف عن الموت، الأول أن الموت يجيء منقذا للأحياء من العذاب، وتعويضا لهم، كما حدث مع مصطفى، الذي قضى جزءا من حياته في العذاب المستمر، فجاء الموت راحة له، كما عبر عن ذلك مصطفى بعد موته للميتين، الذين استقبلوه. وكذلك أم طه، التي كانت تعاني في حياتها من الفقر.

أما الموقف الثاني، فقد جعل الموت عقابا، كما حدث مع “جمانة” التي رأت في الموت صمتا وجوديا. والثالث اعتبر أن الموت فرض لا بد من الخضوع له وتقديسه، واعتباره بديلا عن الحياة، كما عند ياسين في الرواية ومجموعته.

وسرد أحوال من ماتوا، فمنهم من هو مستمتع بموته، ومنهم من هو رافض لهذا الموت، ومنهم من لا يعنيه إن كان الموت سيئا أو جيدا. فهو مستسلم لما في الموت من تحولات، وعليه تحملها، كما تحمل فروض الحياة، أي أنه مطمئن لما قُدر له. ولا رأي له في ما يحصل له بعد الموت، كما كان لا رأي له في الحياة عندما كان حيا.

روايات متشابهة

تناول الناقد رواية المغربي حسن أوريد “سيرة حمار” فرأى فيها أنها وجه آخر لسيرة “الحمار الذهبي” للكاتب أبوليوس. وهذا جعل الرواية متناقضة بنائيا مع الزمن، فالفرق بين العصرين كان كبيرا. اعتمدت الروايتان السحر لتحويل رجل إلى حمار، ففي سيرة حمار يتحول “أذربال” إلى حمار بعد أن اتفق مع خادمة عشيقته لتحويلهما إلى نسرين، اقتفاء لأثر جده لوسيو، لكن الخادمة تخطئ بتركيب السائل السحري، فيتحول إلى حمار، ويعاني معاناة الحمار طوال الرواية بينما مشاعره، وأفكاره أفكار إنسان. حدث له ما حدث بسبب الحب، وكانت غايته الانفراد بعشيقته.

وفي رواية “فرانكشتاين في بغداد” للعراقي أحمد السعداوي، وهي مشابهة في الثيمة لرواية الإنكليزية ماري شيلي، التي صدرت بعنوان “فرانكشتاين أو نموذج البرومثيوس” العام 1818. وتقع بذات المفارقة السابقة: الفرق الزمني بين حدثي الروايتين. الأولى حكت عن الشاب فيكتور فرانكشتاين، المولع بالعلم، وكان يطمح لصناعة رجل حي. ونجح بعد عدة محاولات بتجميع قطع من أجساد موتى، فصار بشرا ضخما بشعا، فيكرهه الناس ويرفضونه، فيعيش منزويا في حياة بائسة.

وجعله هذا يحقد على صانعه، الذي يفر إلى القطب الشمالي، فينتقم هذا المخلوق من أقرب الناس لصانعه. وفي رواية العراقي السعداوي استعار الثيمة السابقة ذاتها، وجعل “الشسمه” المخلوق العجيب، الذي صنعه “العتاك” من جمع أجزاء من جثث لضحايا التفجيرات في بغداد. إن المحاولات التي بذلت في كتابة رواية غرائبية، هي محاولات جادة، ولكن بعض كتابها يقعون في أخطاء بنيويّة يمكن تجاوزها عند كتابة روايات جديدة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: