السلم يقتل الصحافيين كالحرب أو يكاد
أخرج فجأة من تحت الطاولة الكلاشنيكوف المكتوب عليها “مخصصة للصحافيين”. وصوب الرئيس التشيكي البندقية المصنوعة من الخشب نحو الحاضرين منهم في القاعة، في 20 أكتوبر الماضي، لتغطية الندوة الصحافية عن نتائج الانتخابات التشريعية التشيكية، عندما أعلن عن اختياره لرئاسة الحكومة صديقه الملياردير أندري بابيس الذي يسيطر على عدد كبير من المؤسسات الإعلامية هناك.
لم يعد الحكام العرب والأفارقة وحدهم أعداء الصحافيين بل لحقهم عدد آخر من حكام البلدان الديمقراطية مثل الرئيس التشيكي ميلوس زيمان أو الأميركي دونالد ترامب الذي يستخدم عبارة ستالين واصفا إياهم بأعداء الشعب أو روبارت فيكو رئيس حكومة سلوفاكيا السابق الذي نعتهم بالمومسات الوسخات والضباع الغبية.
وليس الأمر انطباعا بل هي حقيقة ذكرتها منظمة “مراسلون بلا حدود” في أبريل الماضي عندما لاحظت أن نسبة العداء تجاه الصحافيين زادت في أوروبا وفي الولايات المتحدة أكثر من غيرهما. وإن كان ذلك لا يعني أن وضع الصحافيين أفضل في بقية العالم فإنه يدل على أن سلامتهم لم تعد مهددة بالحرب والدكتاتورية فقط.
سبعة وتسعون صحافيا قتلوا عام 2018 في العالم، حسب تقرير الاتحاد الدولي للصحافيين، نحو نصفهم في بلدان لا هي دكتاتورية ولا هي بلدان فيها نزاعات مسلحة. وإن جاءت أفغانستان على رأس القائمة بستة عشر صحافيا لقوا حتفهم عام 2018، ولو لا ذلك لكانت المكسيك في الصدارة بأحد عشر صحافيا مقتولا.
لا أحد يعلم شيئا عمّن قتلهم ولا عن أسباب قتلهم إلاّ أن المقتولين كلهم كانوا يشتركون في صفة واحدة وهي إجراء تحقيقات صحافية عن قضايا الفساد أو عن الجريمة المنظمة في المكسيك. هناك في بلد الاتجار بالسلاح وبالمخدرات، في بلد الحكم المحلي حيث تغيب السلطة الفدرالية في الأقاليم، تكون العلاقة بين حكام الأقاليم ورؤساء العصابات علاقة منفعة متبادلة.
ويبلغ الأمر درجة من الخطورة جعلت ممثّل “مراسلون بلا حدود” في أميركا الجنوبية يقول في يوليو الماضي، “إمّا أن حكام الأقاليم يصدرون الأوامر إلى رؤساء العصابات وإما أنهم يتلقونها منهم”. ورغم أن المكسيك أحدثت نيابة قضائية مختصة في الجرائم التي تطال الصحافيين فإن نسبة ضبط المجرمين لم تتعد الواحد بالمئة.
وهناك مافيا الرمال التي تقتنص الصحافيين في الهند ومافيا السياسة في مالطة وبلغاريا وسلوفاكيا وغيرها لإسكات الصحافيين الذين يقتربون كثيرا من حالات الزنا بين السياسة والمال. وقد يذهب السياسيون أنفسهم ضحايا السياسة كما حدث في المكسيك حيث قتل أكثر من مئة مرشح أثناء الحملة التي سبقت انتخابات يوليو 2018.
الصحافة مهنة لا ترحم إذ كلما اجتهد الصحافي في عمله طلبا للحقيقة لكشف الظلم والفساد والجريمة اقترب من الموت، وللشجاعة ثمن باهظ
إنّ عجز السياسيين عن تخطي الصعوبات التي تصادفهم في طريق الوصول إلى الحكم ينقلب إلى تهجم على الصحافة. أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية عام 2016 ذهب المرشح اليساري جون لوك ميلونشون إلى القول “إن كره الإعلام وكره القائمين عليه كره عادل وسليم” وهو تحريض صريح على الصحافيين وإن كان بعضهم يجري في ركاب المرشح إيمانويل ماكرون وقتها.
لقد ساءت العلاقة بين السياسيين والصحافيين في السنوات الأخيرة وزادت الشبكات الاجتماعية الطين بلّة. فقد تمكّن المرشح ترامب عبر حسابه على توتير من إيهام عدد من الأميركيين بأن الصحافة ضده وهو أمر فنّده مختصون في الإعلام والاتصال وواصل الرئيس الأميركي في نهجه “إن لم تكن معي فأنت ضدي”.
ولا يخفي المسؤولون عن الحملة التي انطلقت في الولايات المتحدة برعاية نحو مئتي مؤسسة إعلامية في أغسطس، تحت عنوان “لسنا أعداء أحد”، أنهم يخشون فعلا أن يكون لقتل الصحافيين الخمسة في ولاية ماريلاند في يونيو علاقة بتحريض ترامب على الإعلام. لقد قتلهم شخص اعتقد أن القضاء حابى صحيفة كابيتال غازيت في ماريلاند التي اتهمها بالتشهير به.
للصحافيين أعداء كثر من عصابات الجريمة المنظمة إلى المنظمات الإرهابية المتطرفة مثل الماويين في الهند وداعش عندنا مرورا بالسياسيين ووصولا إلى المتصيدين على الشبكات الاجتماعية الذين يحرضون على الصحافيين بأوامر من مراكز نفوذ متعددة الميولات. يقض مضاجعهم هؤلاء كلهم جلاء الحقيقة للناس.
ففي عام 2017 قتل سبعة مدوّنين في حين تضاعف عددهم عام 2018 ليصل إلى ثلاثة عشر مدوّنا. هم أناس لا يجمعون المال فعملهم غير مربح ولا يعادون أحدا من أجل العداء فهو أمر يمكن فعله دون المخاطرة بالذهاب إلى الميدان بل هم أناس يبحثون عن وقائع لم توفرها الميديا الكلاسيكية. ومن المهم جدا ملاحظة أن ارتفاع عدد الصحافيين المقتولين من 2017 إلى 2018 كان بنسبة 15 بالمئة في حين كانت بنحو 50 بالمئة في شأن المدوّنين.
الصحافة مهنة لا ترحم إذ كلما اجتهد الصحافي في عمله طلبا للحقيقة لكشف الظلم والفساد والجريمة اقترب من الموت، وللشجاعة ثمن باهظ. ففي البيئات الطاردة للصحافيين، بحكم التسلط السياسي أو الإجرامي، يقلّ عددهم وكلما قلّ أصبحت فرص الحصول على الأخبار أعسر ومراقبة أعدائهم لهم أيسر وقنصهم أسهل.
ومن أعداء الصحافيين عن غير قصد المؤسسات الصحافية التي تضغط عليها المنافسة فتقل أرباحها ويذبل بريقها فتخاطر بإرسال صحافييها في مهام خطرة بحثا عمّا لا تتداوله صحف أخرى. لقد حملت أزمة الصحافة، الورقية منها خاصة، عددا من وسائل الإعلام على السبق والتجديد بأخبار عسيرة المنال في بيئات قاتلة أحيانا.
فمن يحمي الحمل من الذئب إذا كان الذئب قاضيا. تسعى منظمة “مراسلون بلا حدود” إلى إقناع الأمم المتحدة بتعيين مفوّض خاص لحماية الصحافيين. يبدو الأمر صعبا إذا كان من أعدائهم سياسيون مثل ترامب أو مثل الرئيس التشيكي الذي خاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مايو في ندوة مشتركة قائلا “إنهم كثيرو العدد ينبغي قتل بعضهم”.
كثيرون يعتقدون أن ميلوس زيمان جاد في هزله أكثر من كونه هازلا في جده. لقد رد عليه بوتين بواقعيته قائلا “لا حاجة إلى القتل يكفي الإحاطة بهم”.