الأحكام المسبقة تضع الشباب في دائرة الاتهام بانعدام المسؤولية

بلغ الجيل الجديد من الشباب مستويات قياسية في تجاوز الأحكام المسبقة التي انطبعت في الأذهان عنه من قبل المجتمع والجيل الأكبر سنا، وتؤكد الدراسات الحديثة أن الشباب الآن هم أكثر جدارة ومسؤولية من الجيل الذي سبقه، وأكثر استقرارا في العمل بسبب الصعوبات والتحديات التي عايشوها مع الأزمات المالية والاقتصادية المتلاحقة في العالم.

“أبناء جيل الألفية” عنوان يرتبط بالأذهان مع مجموعة من الأحكام المسبقة عن الشباب في كل مكان، وبمجرد طرحه في النقاشات العامة وفي محرك البحث على شبكة الإنترنت، تقفز التصورات العامة بين متهورين وطائشين وسريعي الانفعال ولا يرغبون في الاستقرار بوظيفة معينة.

تزداد الأحكام المسبقة على الآخرين بشكل عام كلّما تباعدت الجغرافيات وتباينت الثقافات. وهي لا تقتصر على فئة معينة ولا على شعب واحد، لكن للشباب النصيب الأكبر من هذه الأحكام ولكن دراسات عديدة ومعمقة أجريت في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أثبتت أن الصورة الراسخة في أذهان الكثير من الناس عن أبناء جيل الألفية، غير صحيحة، والاتهامات الموجهة لهم باللهاث وراء إرضاء الذات بكل الطرق الممكنة، أمر يفتقر إلى الصواب، وفق ما أكدت الصحافية جاسيكا هولاند، في تقرير نشرته بي.بي.سي.

أثبتت الدراسات أن أبناء جيل الألفية ليسوا أقل التزاما وإخلاصا في العمل من نظرائهم الأكبر سنا، عندما كانوا في نفس المرحلة العمرية، إن لم يكن أبناء جيل الألفية أكثر التزاما منهم. وفوق ذلك، تبين أن أبناء جيل الألفية لا يكافؤون على إخلاصهم للعمل.

وصدر تقرير عن مؤسسة “ريزولوشن”، للأبحاث في بريطانيا العام الماضي، جاء فيه أن واحدا فقط من بين كل 25 شخصا من أبناء جيل الألفية في المملكة المتحدة ينتقل من وظيفة إلى أخرى كل عام في منتصف مرحلة العشرينات العمرية.

حرص على العمل

أحكام مجحفة
أحكام مجحفة

أفاد التقرير أن أبناء الجيل السابق لجيل الألفية، ينزعون للتنقل بين الشركات أكثر من أبناء جيل الألفية في نفس المرحلة العمرية بنحو الضعف، لأنهم كانوا يحققون مزايا مالية أفضل.

ويقترن التنقل الوظيفي في المعتاد بزيادة في الراتب بنحو 15 بالمئة مع كل تغيير للوظيفة، بالإضافة إلى ما يجنيه الموظف من فرص لتعلم مهارات جديدة، وتحديد نوعية المنشآت التي تناسب تطلعاته.

وفي الوقت نفسه، أشار تقرير المؤسسة إلى أن الزيادات في الرواتب التي كانت تمنحها الشركات للموظفين الذين يفضلون البقاء فيها لفترة طويلة تقلصت في الآونة الأخيرة وتكاد تكون منعدمة. وقد بات هذا الاتجاه لإلغاء الزيادات أكثر وضوحا، في بلدان عديدة وليس فقط في المملكة المتحدة وحدها.

ونشر مركز “بيو” للأبحاث، وهو مؤسسة بحثية محايدة في العاصمة الأميركية واشنطن، نتائج مشابهة، استنادا إلى بيانات وزارة العمل الأميركية.

الشباب أصبحوا أقل جرأة على خوض المخاطر لأن هذا الجيل بلغ مرحلة الشباب في خضم الأزمة المالية العالمية

وتوصل التقرير إلى أن الموظفين الأميركيين في الفئة العمرية الممتدة من سن 18 إلى 35 عاما، ليسوا أقل حرصا على البقاء في شركة واحدة من نظرائهم الأكبر سنا من أبناء الجيل الذي سبقهم، عندما كانوا في نفس المرحلة العمرية.

وأشار التقرير إلى أن سجلات إنجازات أبناء جيل الألفية، من بين الحاصلين على شهادات جامعية، لدى الشركات أطول من سجلات نظرائهم من أبناء الجيل الذي يسبقهم عندما كانوا في نفس المرحلة العمرية.

وقالت لاورا غاردينر، من كبار المحللين السياسيين بمؤسسة “ريزولوشن”، وشاركت في إعداد تقرير عن تراجع معدل تنقل أبناء جيل الألفية بين الوظائف في المملكة المتحدة: “إن تأثير الأسباب الاقتصادية يبدو جليا للعيان. ومن المعروف أن الشباب أكثر تنقلا بين الوظائف من نظرائهم الأكبر سنا. وقد تراجع معدل التنقل الوظيفي في الآونة الأخيرة بين جميع الفئات العمرية، وإن كان قد تراجع بوتيرة أسرع بين
الشباب”.

وتضيف أن إحجام الشباب عن التنقل الوظيفي الآن “كان له أثر كبير على الرواتب التي يتقاضونها. فلأول مرة في التاريخ، يتقاضى الشباب الآن نفس الأجور التي كان يتقاضاها أبناء الجيل الذي سبقهم في نفس المرحلة العمرية منذ 15 عاما مضى”.

استقرار وظيفي

العمل الدؤوب وتجاوز العقبات والتحديات
العمل الدؤوب وتجاوز العقبات والتحديات

لم يكشف التقريران عن الأسباب الحقيقية لتراجع معدلات التنقل الوظيفي بين الشباب الآن. وذكر ريتشارد فراي، أحد كبار الباحثين في مركز بيو للأبحاث، في ملخص للبيانات كتبه على مدونة المركز أن هذا التراجع، “قد يكون بسبب قلة الفرص المتاحة أمام الشباب للحصول على وظيفة أفضل لدى شركة مختلفة”، على حد وصفه.

وأشارت غاردينر إلى أن الشباب ربما أصبحوا أقل جرأة على خوض المخاطر لأن هذا الجيل قد بلغ مرحلة الشباب في خضم الأزمة المالية العالمية. هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل انتشار عقود العمل التي لا تنص على حد أدنى لساعات العمل، وزيادة العمالة المؤقتة، والتحول الحاصل في بريطانيا من اقتصاد قائم على التصنيع إلى اقتصاد قائم على الخدمات. وتقول: “كل هذا ساهم في تراجع الثقة، والقدرة على المساومة لدى الشباب”.

وذكر باحثون في شركة ديلويت للخدمات المالية، التي تنشر استطلاعا سنويا لآراء أبناء جيل الألفية، أن الأوضاع السياسية والاجتماعية غير المستقرة في الدول المتقدمة في الوقت الراهن كشفت في الشهور الـ12 الأخيرة فقط عن مدى تطلّع الشباب لتحقيق الأمان الوظيفي.

أبناء الجيل السابق لجيل الألفية، ينزعون للتنقل بين الشركات أكثر من أبناء جيل الألفية في نفس المرحلة العمرية بنحو الضعف

وأوضح استطلاع للرأي عام 2017، شارك فيه 8000 شاب من جيل الألفية حول العالم، أن أبناء جيل الألفية في البلدان المتقدمة أصبحوا أقل استعدادا لترك وظائفهم في العامين المقبلين، وأكثر حرصا على البقاء في الوظيفة لخمس سنوات أو أكثر، مقارنة بالعام السابق.

وجاء في التقرير “تشير البيانات المسجلة لدينا أن الأوضاع المتقلّبة ربما تزيد من رغبة أبناء جيل الألفية في تحقيق المزيد من الاستقرار”.

أهداف ثابتة للأجيال

أبناء جيل الألفية بلغوا مرحلة الشباب في غمرة الأزمة المالية
أبناء جيل الألفية بلغوا مرحلة الشباب في غمرة الأزمة المالية

وفي ضوء هذه الأوضاع، تضاءلت أعداد الوظائف المتاحة بعقود طويلة الأجل التي تنص على زيادات منتظمة في الرواتب، وارتفعت معدلات القلق والتوتر خشية تكرار الأزمة المالية العالمية، وزادت المخاوف من المستقبل. أضف إلى ذلك أن أبناء جيل الألفية بلغوا سنا يخططون فيه لشراء منزل والزواج وإنجاب الأبناء.

يقول غريتشين ليفينغستون من مركز بيو للأبحاث، إن نساء جيل الألفية أنجبن ما يزيد بقليل على ثمانية مواليد من بين كل عشرة مواليد في عام 2015. ولهذا ليس من المستغرب أن تهتم هذه المجموعة من الآباء والأمهات بالاستقرار المالي.

وتشير الصور النمطية عن أبناء جيل الألفية إلى أنهم لا يهتمون بمؤشرات النجاح التقليدية. ولكن غاردينر تقول إن الرغبات الأساسية لتوفير ضروريات الاستقرار، وهي المنزل ومدخرات التقاعد، ومهنة كريمة، وعائلة، “تكاد لا تختلف على الإطلاق من جيل إلى آخر”.

وتوافقها الرأي جينيفر ديل، من بين كبار علماء الأبحاث بمركز “الريادة الخلاقة” بمدينة سان دييغو في ولاية كاليفورنيا، ومؤلفة كتاب “ما الذي يريده أبناء جيل الألفية من العمل”، وتقول “لا أجد اختلافا في القيم الأساسية بين جيل وآخر، ربما يلجؤون لطرق مختلفة للتعبير عن القيم التي يتبنونها، ولكن أهدافهم في الحياة وفي العمل تكاد تكون متطابقة”.

أبناء جيل الألفية الذين يعيشون في البلدان ذات الاقتصادات الناضجة، التي تتميز بتباطؤ النمو الاقتصادي، يفضلون عقود العمل الدائمة في مقابل العمل المستقل

في ظل زيادة أسعار المنازل، وارتفاع تكاليف التعليم الجامعي في الكثير من البلدان، باتت هذه الأهداف بعيدة المنال لأبناء جيل الألفية. ولعل هذا عامل آخر يزيد من رغبة أبناء هذا الجيل في ترسيخ أقدامهم في شركة واحدة.

وفقا لاستطلاع للرأي عن أبناء جيل الألفية أجرته شركة ديلويت عام 2017، يفضل سبعة أفراد من بين كل عشرة من أبناء جيل الألفية الذين يعيشون في البلدان ذات الاقتصادات الناضجة، التي تتميز بتباطؤ النمو الاقتصادي، عقود العمل الدائمة في مقابل العمل المستقل، وعلل أغلبهم تفضيل العمل الدائم بالرغبة في تأمين “الأمان الوظيفي”، و”الدخل الثابت”.

تقول ديل “تغيرت نظرة الشباب للحياة منذ سبعينات القرن الماضي، لتواكب التغيرات التي شهدها العالم”. وتضيف أن إلقاء اللوم على الشباب ووصفهم بأنهم متهاونون في العمل “هي الصورة النمطية للشباب، وقد وُصف أبناء الجيل السابق أيضا بالتواني والتقصير في بداية انخراطهم في سوق العمل”.

وتشير الأدلة إلى أن البيئة القاسية بشكل غير مسبوق التي اضطر أبناء جيل الألفية للعمل فيها، هي التي تعيقهم عن تحقيق تطلعاتهم، وليس نظرتهم للعمل.

وللشباب العرب نصيب الأسد من الأحكام المسبقة في الغرب، ويحاول الكثير منهم تخطي هذه الأحكام بإثبات الجدارة والعمل الدؤوب وتجاوز العقبات والتحديات.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: