فهم الأخبار لا يكون بالنقل بل بالعقل
“لن تكتفي أبدا بمجرد نشر الأخبار”؛ كان جوزيف بوليتزر، في ذلك اليوم العاشر من شهر أبريل 1907، يعامل غير العاقل معاملة العاقل في خطاب انسحابه الشهير. هي صحيفته التي ما زالت تصدر إلى اليوم “سانت لويس بوست ديسباتش”.
كان في الخطاب أكثر من ذلك الكلام، إذ جاءت فيه فقرة تحمل “الوصايا العشر” التي أصبحت دستور الصحيفة الذي نشرته مرارا على امتداد أكثر من قرن منذ رحيل بوليتزر عام 1911. وقد يبدو من الوهلة الأولى أن تلك الوصية تتحدث عن السياسة العامة للصحيفة وهو ظن سرعان ما يتبدد عندما نعلم أنها الثامنة في خطابه سبقتها سبع أخرى في سياسة الصحيفة العامة.
كلام بوليتزر، منشئ الصحافة الجديدة، واضح والقصد منه أمران؛ أولهما أن نشر “المقالات” الإخبارية مجردة من سياقها خطأ جسيم، وآخرهما أن النشر لا يقوم على الأخبار فقط بل كذلك على ركيزة أخرى تأخذ الخبر إلى ما وراء الصفحة الأولى بأجناس صحافية أخرى وبآليات أخرى هدفها التفسير بل تعقب الوقائع حتى تنطق.
لقد دأبت الصحافة التونسية على العمل بنقيض نصيحة بوليتزر في معظم ما تنشره من مضامين إخبارية مكتفية أحيانا كثيرة بنقل الأقوال بالسماع أو من البيانات التي تمن بها عليها مصادر شتى فأصبحت صحافة نقل يشوبه غموض قد يبلغ درجة الإبهام لأنه نقل يفتقر إلى السياق وإلى الخلفيات الضرورية التي لا يوردها المتحدث ضرورة.
يوم الأحد 30 ديسمبر نشرت نيويورك تايمز تحقيقا عنوانه “كيف ثبّت صحافيو التايمز لحظة قاتلة في إحدى ساحات الاحتجاج في غزة” ويكشف أن الجيش الإسرائيلي تعمد في الأول من يونيو قتل المسعفة الفلسطينية الشابة رزان النجار. اشتغل على الموضوع ثلاثة صحافيين مدة ستة شهور بين نيويورك وغزة استجوبوا فيها أكثر من ستين شخصا ودققوا في ألف صورة ومقطع فيديو أخذوها كلها ممن كانوا هناك.
واستعان الفريق الصحافي بمؤسسة بريطانية مختصة في الطب الشرعي مكنتهم من إعادة تركيب الصور تركيبا ثلاثي الأبعاد بناء على عشر آلات تصوير عالية الدقة مثبّتة في طائرات دون طيار صورت مسرح الجريمة بعد أن أعادوه على حاله بالدمى والأسلحة البلاستيكية. أدت العملية مع الاستعانة بتحليل نتائج التقارير الطبية إلى أن الشابة رازان قتلت عمدا برصاصة اخترقت شريانها الأبهر.
سيقولون من أين لصحافتنا الفقيرة بصحافيين يشتغلون ستة شهور؟ صحيح، غير أن التكذيب يأتي من مكان فيه واحدة من أكبر المدن الإعلامية في العالم تؤوي مؤسسات أغنى عشرات المرات من التايمز ومؤثثة بأحدث التكنولوجيات ولم تفعل. فالقضية قضية عقل لا نقل، تحتاج إلى مال دون أن يكون المحدد الرئيسي في الأمر.
وبصرف النظر عن المال والوسائل دعونا ننظر إلى الممارسة. صبية في عمر الزهور تقتل ويبكي من بكى من أهلها وتلتاع أمها وتصدر الجهات الفلسطينية بيانات التنديد ثم ينقل الخبر على أنها ماتت خطأ. الذي غير الأمر من حادث بسيط إلى جريمة حرب تنقلها واحدة من أكبر الصحف الأميركية انتشارا هو ممارسة صحافية معلومة منذ أن كانت الصحافة، وهي ألاّ نكتفي بما نسمع أو نرى أو بما يحكى لنا.
صحيح أن ما فعلته التايمز بالنبش في أصل القضية وبملاحقة نتائجها أمر صعب المنال غير أنها لم تكن مقنعة بنتائج البحث فقط بل بعرضها التفاعلي على موقعها بما يمكن تعريبه بإثراء المضامين وهو طريقة إنتاج وعرض يستخدم فيها الصحافي أربعة أنماط تعبيرية متكاملة ووظيفية وهي النص والصوت والصورة الثابتة والفيديو، وهي أنماط غير مكلفة إطلاقا يمكن السيطرة عليها حتى بالهاتف الجوال.
ولن نذهب إلى ذلك الحد من التعقيد المفترض لبيان أن المسألة أبسط من ذلك. بقيت الصحافة العالمية والعربية منها تردد شهورا قول الرئيس الأميركي بوش الابن للعراقيين “أثبتوا أنكم لا تملكون أسلحة دمار شامل” فنقلنا ورددنا غير عابئين بمنطق سليم يقتضي منا أن نقول في أنفسنا إنه لن يستطيع أحد إثبات ما لا يملك.
ونقلنا ذات يوم، في الخامس من فبراير 2003، مرددين مسرحية مجلس الأمن حول أسلحة الدمار الشامل العراقية الموهومة. رددنا قائلين إن كولن باول، وزير الخارجية الأميركية وقتئذ، “عرض صورا تثبت أن العراق يملك أسلحة دمار شامل” دون الانتباه إلى أننا قلنا ما عجز عن قوله بطريقة أفضل مما كان يتمنى. نقلنا الصور وربطناها بكلامه فجاء المعنى مجرما بكلمة “تثبت”.
وإذا كان ذلك المثال يوقعنا بالنقل دون التمحيص والفهم في فخ المصدر فإننا أحيانا ندفع المتلقي إلى الهاوية عن غير قصد عندما نكتفي بالأخبار المجردة المنزوعة من سياقها. فقد نقلت الصحافة التونسية يوم 27 ديسمبر كلام رئيس جمعية القضاة الذي قال إنّ عفو رئيس الجمهورية عن مسؤول في نداء تونس “مخالف للإجراءات القانونية ومخالف لرأي لجنة العفو” بعد أن قالت رئاسة الجمهورية إنه عفو خاص يضمنه الدستور للرئيس في الفصل 77.
وهذا مثال جيد يبرز حاجة المتلقي إلى الصحافي ليساعده في الفهم بأداء وظيفة صحافية إخبارية بسيطة بسؤال المختصين في القانون مثلا. فصحافيو التايمز سألوا أكثر من ستين شخصا لم يوردوا كلامهم في التحقيق. من تُتاح له قراءة مقال التايمز سيكتشف أنه مقال مجدد إذ لم يكتف الصحافيون بنقل الأخبار والتفسير فقط بل عرضوا فيه أساليب عملهم مدققة فكان القارئ وكأنه معهم لبناء الثقة بينهم وبين المتلقين.
لمّا كان بوليتزر على يخته يوم 29 أكتوبر 1911 يحدث رفاقه عن وصاياه المالية التي أتمها مع محاميه والموت يترقبه قال لهم: بقي أمر واحد، أقنعت جامعة كولومبيا بإنشاء معهد لتدريس الصحافة. صمتوا فأدرك حيرتهم رغم عماه فرد عليهم قائلا: إن الملاحظة تعلّم الناس الصحافة غير أنها لا تكفي، أريد أن أعلّم صحافيي المستقبل كيف يفكرون.