لطيفة أخرباش دبلوماسية متعددة المهام يختارها المغرب لرئاسة “الهاكا”
مطلع ديسمبر الجاري عين العاهل المغربي الملك محمد السادس سفيرة الرباط في الجمهورية التونسية لطيفة أخرباش على رأس الهيئة العليا للمجلس الأعلى للاتصال المسموع والمرئي بالمغرب، والمعروف اختصارا بـ”الهاكا”، رئيسة جديدة لهذه المؤسسة الدستورية المهمة. وقد أكد المتتبعون على أن الفريق الذي تترأسه أخرباش فريق استثنائي وأنها تستحق المنصب كتشريف ومسؤولية نظرا لكفاءة هذه المرأة المغربية وحضورها الوازن في المهام التي كلفت بها سابقا، والتي برهنت من خلالها على ميزة المرأة المغربية وعطائها المستمر والمتميز والمتنوع.
إرادة حديدية
تجديد تركيبة هذه الهيئة الهامة يأتي حسب بيان الديوان الملكي بعد الارتقاء بها إلى مؤسسة دستورية مستقلة لتقنين وضبط مجال الاتصال السمعي البصري الوطني، كما يعكس حرص العاهل المغربي على قيامها بمهامها، ولا سيما ما يتعلق منها بضمان حرية الاتصال السمعي-البصري، وحرية التعبير وحمايتها، وحق المواطنات والمواطنين في المعلومة وفي الإعلام والخبر، بما يكفل إرساء مشهد سمعي-بصري متنوع وتعددي ومتوازن، في إطار احترام التعددية السياسية والثقافية واللغوية، وتيارات الرأي والفكر ببلادنا، والالتزام بالقانون وبالمهنية وأخلاقيات المهنة.
أخرباش المولودة في تطوان شمالي المغرب سنة 1960، تأتي إلى هذا المنصب وهي مثقلة بهموم وتحديات الصحافة والإعلام، غير مرتبكة ولا متوجسة، فهي ابنة الميدان دراسة وتدريسا وإدارة وبحثا. ونظرا لكون المنصب يتمتع بهالة دستورية كبيرة فالمتوقع أنها ستشحذ كافة أسلحتها التفاوضية والإقناعية التي خبرتها في ميدان العمل الدبلوماسي في عدد من البلدان سفيرة ومسؤولة في وزارة الخارجية حيث كانت تشغل منصب كاتبة الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي.
وسينصب عملها على رأس الهاكا على تطوير الهيئة وإعطائها البعد التنويري والتعددي وإطلاق حزمة من القرارات والمشاريع للنهوض وإعادة تأهيل قطاع الإعلام كقوة ناعمة وواجهة للدفاع عن المكتسبات وإبراز الفرص ومواطن الضعف.وتبدو أخرباش متسلحة بترسانة علمية مهمة ورصيد معرفي في المجال الإعلامي، فبعد حصولها على الباكالوريا في شعبة العلوم الرياضية، التحقت بالمعهد العالي للصحافة بالرباط، وتخرجت منه سنة 1983.
طموح أخرباش وإرادتها الحديدية دفعاها إلى الاجتهاد والانكباب على الدرس للحصول على الدكتوراه في علوم الإعلام والاتصال من جامعة باريس. وقد خبرت ميدان التدريس والبحث بمجال الإعلام لأكثر من 20 عاما، ومن خلال عملها كمديرة للمعهد العالي للإعلام والاتصال وكمديرة للإذاعة المغربية.
“الهاكا”، كمؤسسة دستورية مستقلة تتولى تقنين وضبط مجال الاتصال المسموع والمرئي بالمغرب. ولذلك يتوقع أن تشمر أخرباش عن سواعد قوتها ورصيدها الثقافي وحسها الحقوقي، لتختبر ما أسنده المشرع المغربي للهيئة منذ إحداثها، مهمة ضمان التعبير عن تعددية تيارات الفكر والرأي في خدمات الاتصال السمعي البصري، إضافة إلى السهر على الحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري، وذلك في إطار احترام القيم الحضارية الأساسية وقوانين المملكة.
وقد سبق للمجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري أن أصدر في 7 يونيو من العام الحالي، قرارا جديدا يتيح للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري تنظيم التعبير التعددي لتيارات الفكر والرأي في خدمات الاتصال السمعي البصري خارج فترات الانتخابات العامة والاستفتاءات.
المرأة المغربية والحريات
إيمان أخرباش بالتعددية الثقافية والفكرية يتماشى مع هدف قرار الهاكا بتحقيق نقلة نوعية في تنظيم التعبير التعددي لتيارات الفكر والرأي، باعتماده مقاربة تزاوج بين “مبدأ الإنصاف” الذي يضمن، استنادا إلى قواعد التمثيلية في المؤسسات المنتخبة، الدخول المنصف للأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والمهنية إلى خدمات الاتصال السمعي البصري، وبين مبدأ التوازن الذي يضمن تعددية المصادر والتعبير عن مختلف وجهات النظر عند التطرق لقضايا الشأن العام.
أخرباش وفريقها، الذي أقسم أمام الملك، سيعملان على الاجتهاد بتفعيل المناصفة بين النساء والرجال في البرامج الإخبارية، وإشراك المرأة في تناول سائر المواضيع ذات العلاقة بالشأن العام، وحق جمعيات المجتمع المدني في الولوج إلى برامج خدمات الاتصال السمعي البصري، في إطار احترام قواعد الإنصاف الترابي والتوازن والتنوع وعدم التمييز.
عمل أخرباش على رأس الهاكا ينصب على تطوير الهيئة وإعطائها البعد التنويري والتعددي وإطلاق حزمة من القرارات والمشاريع للنهوض وإعادة تأهيل قطاع الإعلام كقوة ناعمة وواجهة للدفاع عن المكتسبات وإبراز الفرص ومواطن الضعف
إن تكليف أخرباش بعدد من مواقع المسؤولية وإثباتها الجدارة والكفاءة هو تعبير عما وصلت إليه المرأة المغربية من حرية في التحرك والوصول إلى المناصب التي كانت حكرا على الرجل، فأدوار هذه المرأة دبلوماسيا وإعلاميا تعكس شخصيتها القوية.
الصحافية والكاتبة ومنتجة برامج ثقافية بقناة التلفزيون الأولى بديعة الراضي، تصف أخرباش بالمرأة “الحارّة” نظرا لجديتها وديناميتها، حتى أن البعض كانوا يطلقون عليها “العسكرية”.
ولا بد أن أخرباش ستتذكر قولها “إننا في المغرب وعدد آخر من الدول، في حاجة إلى مشاركة متزايدة للنساء من أجل تشجيع التقدم الاجتماعي ومحاربة الفساد، وأن الالتزام النشيط للمجتمع المدني بمثابة عنصر آخر مهيمن في مسلسل توطيد حقوق المرأة المغربية وتعزيز مساهمتها المواطنة”.
تعزيز قيم الاعتدال
نظرا للأدوار التي لعبها الملك محمد السادس في تقديم المرأة المغربية إلى ميدان السياسة والاقتصاد والدبلوماسية والإعلام وغيرها من المجالات إلى حد أنه اتخذ من الراحلة زليخة نصري مستشارة له لأول مرة بشكل مباشر وعلني داخل البلاط الملكي، كما تقول أخرباش فإنه ومنذ توليه عرش المملكة قد خص المغربيات بسابغ عطفه، فلم يألُ جهدا في الإنصات لرغباتهن، ومنحهن حقوق المواطنة كاملة، وتلبية طموحاتهن في الكرامة والتمكين الاجتماعي، وتيسير السبل لمساهمتهن في الحياة السياسية وحفز طاقاتهن للدفع قدما بأوراش التنمية وازدهار الوطن.
لقد وضع الملك إرادته وشرعيته لخدمة النهوض بأوضاع المرأة المغربية، داعما بثقله الكبير إصلاح مدونة الأسرة وتشجيع دخول النساء إلى مواقع القرار ومناصب المسؤولية حتى أصبح بإمكان المرأة المغربية أن تشغل مهنة “العدول” لتنخرط في إصلاح الحقل الديني، ما عزز المقاربة المغربية في مواجهة التطرف وتعزيز قيم الاعتدال والحوار، مرورا بمحاربة كل صنوف الفوارق بين الرجل والمرأة، حسب أخرباش التي تقول إنه في مختلف هذه المحطات، كان العاهل المغربي حاضرا بقوة للدفع قدما بتلك المسارات كعنصر حاسم في تقوية المجتمع المغربي في صموده أمام الظلامية والتقهقر وفي مسيرته نحو الحداثة والتقدم الإنساني.
ترى أخرباش أن للاستقرار عوامل وأسبابا على رأسها الثقة في المؤسسات وانفتاح النظام السياسي المغربي وديناميته، إضافة لإشراك المجتمع المدني عوامل من بين أخرى تعزز الاستقرار في المغرب، وهنا تبرز أخرباش المكانة الهامة للملكية كمؤسسة جامعة في بيئة تتميز بتنوع ثقافي وديني واجتماعي وسياسي، هذه المؤسسة متجذرة في الشخصية التاريخية للبلد منذ 12 قرنا، وكانت على الدوام موجهة نحو المستقبل والتقدم.
تجديد تركيبة الهاكا يأتي بعد الارتقاء بها إلى مؤسسة دستورية مستقلة لتقنين وضبط مجال الاتصال السمعي-البصري الوطني، كما يعكس حرص العاهل المغربي على قيامها بمهامها، ولا سيما ما يتعلق منها بضمان حرية الاتصال السمعي-البصري وحرية التعبير وحمايتها
التطور الديمقراطي للمغرب توّج، وفقا لأخرباش، بالدستور المغربي الجديد والآفاق الجديدة التي يتيحها لدعم هذا الاستقرار كنتيجة لدينامية حقيقية للإصلاحات التي هدفت إلى تعزيز الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والدفاع عن الوحدة الترابية والتمسك بالملكية، بعيدا عن كل خلافات سياسية أو تنوع ثقافي أو اجتماعي، فالوحدة الوطنية في أبهى صورها كما بينت الأحداث ذات الصلة بقضية الصحراء، وتستدعي من الشركاء الدوليين للمغرب الاعتراف للشعب المغربي مرة وإلى الأبد بحقوقه التاريخية، واحترام قضاياه المقدسة. إذ لا تخفي أخرباش أن استمرار النزاع المصطنع حول الصحراء المغربية، بسبب العرقلة التي تقوم بها الجزائر لكل حل سياسي متفاوض عليه، دائم ونهائي لهذا النزاع، يرهن بروز مغرب عربي مندمج اقتصاديا ومنسجم سياسيا.
فالتبني العلني لقضية الصحراء المغربية معطى رئيسي ومستدام في الحياة السياسية المغربية، ولهذا تؤكد أخرباش أن احترام هذا الواجب الدستوري والالتزام بالحلم المغاربي لشعوب المنطقة، لا يعني محاولة جعل هذه الشعوب تعتقد أن المبادلات التجارية يُمكنها أن تحل محل إرادة سياسية حقيقية من أجل بناء فضاء مغاربي مندمج اقتصاديا ومستقر سياسيا.
الحوار وثقافة السلم
حين يجري الحديث عن الفرانكفونية والانفتاح الثقافي تؤكد أخرباش دوما أن المملكة المغربية كانت على الدوام تعتبر ذلك جزءا من أسسها الثابتة، فالمغرب انخرط مبكرا في الليبرالية والانفتاح الثقافي وقيم الحداثة والحوار الديني والتعددية، سواء في الميدان القانوني أو في سياسته العمومية الداخلية وكذلك الشأن بالنسبة لسياسته الخارجية وعلاقاته الدولية.
رئيسة “الهاكا” قبل أن تكون سفيرة للمغرب في تونس، كان الملك محمد السادس قد عينها سفيرة لدى جمهوريتي بلغاريا ومقدونيا، ومن هذا المنصب الحيوي استطاعت أن تكوّن رؤية حول البعد الثقافي في العمل الدبلوماسي، وما يمكن أن يحققه من ثقل ومردودية على البلد.
ولذلك تؤمن أخرباش بمضاعفة المبادرات المشتركة التي ينخرط فيها العديد من الفاعلين، خاصة من الأوساط الجامعية ومن المجتمع المدني بين المغرب ودول أخرى، الهادفة، على الخصوص، إلى ترسيخ قيم الحوار وثقافة السلم، كما تؤكد أن المملكة المغربية تعتبر الفرانكفونية مجتمع قيم ينتمي إليه كل من يعتقد بأن الثقافات متساوية وأن التنوع والمساهمة الفردية لكل واحد منها هما إثراء للإنسانية.
انتماؤها إلى المنطقة المتوسطية يدفع أخرباش إلى النظر إلى هذه المنطقة كمنتدى للحوار بين دول الضفتين. وهي تعتبرها فضاء استراتيجيا للتفاعل والعمل المشترك، قادرا على خلق منافع اقتصادية واجتماعية للضفتين.
أخرباش التي تعد من النخب النسوية ذات الصيت العالي داخل المملكة وخارجها لعملها الدبلوماسي والسياسي ولأدوارها في الإعلام، شاركت في تأليف عدة كتب لا سيما “النساء والإعلام” و”النساء والسياسة”، كما نشرت عدة مقالات ودراسات حول الإعلام والاتصال، وعملت صحافية بأسبوعية “لا في إكو”، وشغلت أيضا ممثلة للمغرب في الشبكة الأورومغاربية للتكوين في مهن الاتصال الذي تم إحداثه من طرف اللجنة الأوروبية، وتولت منصب مستشارة بمؤسسة فريديريش ناومان، ونتيجة لمسارها الحافل تم توشيحها من قبل الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند في العام 2015 بوسام جوقة الشرف من درجة فارس.