موسيقى نهاية العام تعزف في أسواق الرباط

تتنوع الهدايا بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة في المغرب بين العطور والشوكولاطه والحلي الغالية الثمن والورود، لكن البعض يفضل أن يهدي نغم المسرات من خلال آلة موسيقية؛ عود أو قيثارة أو كنبري، إلى الأحباب ليجعلهم سعداء طوال السنة، ويتذكرونه في كل مناسبة فرح أو أثناء سهراتهم الليلية.

كلما اقترب موعد ليلة رأس السنة الميلادية كلما ازداد زبائن محل بيع الآلات الموسيقية بالسويقة في الرباط، والإقبال عليه في هذه الأيام أكثر من أي مناسبة أخرى، ففي ليلة رأس السنة يفرح الجميع، ويحملون هداياهم إلى من يحبون، ومن الهدايا التي تقدم، العود الشرقي أو آلة الكنبري أو العود التركي، أو آلة العود الرباطي.

والعود الرباطي هو أغلى أنواع الآلات الموسيقية في المحل الوحيد، الذي تبقى في السويقة لبيع آلات الموسيقى بأنواعها، فثمنه يتجاوز ثمانية آلاف درهم (الدولار يساوي 9.4 درهم).

وما إن تدخل محل بيع الآلات الموسيقية التراثية في السويقة بالرباط خلال الشهور الماضية، حتى تجد سعيد نكادي (35 سنة) صاحب المحل لبيع الآلات الموسيقية جالسا وحيدا، وقلما تجد أحدا يسأله عن بضاعته.

ويكون عندئذ متفرغا للحديث عن بضاعته، وعن مصادرها، وأثمانها برحابة صدر. وهو عادة يخفض أسعار بضاعته إلى النصف في تلك الشهور، ولكن ما أن تقترب إحدى المناسبات، كالأعياد ورأس السنة حتى ترتفع الأسعار من جديد مواكبة للحدث السعيد، يشرح ضاحكا هذا الأمر “هذه هي السوق، وأسعارنا تتعلق بما يجري فيها، وإن أردت آلة وترية، فهي جاهزة وبسعر منخفض”.

آلات صينية لا تصلح إلا للديكور
آلات صينية لا تصلح إلا للديكور

في الشهور الماضية لا تجده بهذه الحيوية واللطف، وتجد أمامك صفوفا من الآلات الموسيقية، وقد علتها الأتربة ونسج العنكبوت خيوطه بين أوتارها، فمحله لا يؤمه إلا القليلون من محبي التراث الموسيقي من كبار السن، أما الشباب فقد حاول نكادي جذبهم كما قال لـ”العرب” باستيراد كمنجات وقيثارات صينية وطبول أفريقية زهيدة الثمن بمئتي درهم وأغلاها بثلاثمئة درهم.

الحاج رشيد شراقة (70 سنة) من جوق مدينة الرباط الموسيقي للأفراح، يقول “الآلات الصينية ليس فيها روح، لأنها لم تصنع بيد حرفيّ متمرس بمقامات الموسيقى العربية”.

ويضيف شراقة، “عندما اعزف على آلة مصنوعة في الصين، فالأوتار لا تساعدني لنقل اللحن إلى المستمعين، فهي تقول شيئا غير ما ينوي العازف قوله، لقد صنعوا هذه الآلات بمكائن، وليس بيد حرفيّ يحب صنعته”. أسامة رشيد (30 سنة) حرفيّ يعمل في ورشة لصناعة الآلات التراثية بمحل منزو للنجارة بالنهضة في الرباط،، يقول لـ”العرب”، عن عمله، “الحرفيّ يتفنن في صنع الكنبري، يبدأ باختيار خشب الكركاع الجيد لعمله، ويختار خشب الكركاع الذي تم وضعه في الظل لسنة أو لسنتين، وفي بعض الأحيان يستغرق العمل على الخامة أكثر من 60 ساعة لإنتاج عود واحد”.

ويضيف رشيد، “الكنبري يشبه العود المصري، لكن صندوقه الخشبي أكبر ويشبه درع السلحفاة، ونغطيه بجلد غزال مقوى بمواد دباغية، وله زناد طويل يحمل ثلاثة أوتار، أما البندير (آلة إيقاعية تشبه الدّف) فنغطي إطارها، ونشده بجلد بقري مدبوغ جيدا، لكي يعطي إيقاعا خاصا عند النقر عليه”.

وفي محل نكادي تجد الآلات “التي تصنع المسرَّة” كما نعتها جواد الشركي (50 سنة) أحد زوار المحل، وهو من محبي اقتناء الآلات الموسيقية، ويعتقد أن العازف على آلة كناوة يجد ألفة واستجابة (الآلة تشبه العود الشرقي) وحين تعزف عليها تشعر بفرح ينقلك من مشاغلك وهمومك اليومية إلى عالم من السعادة والفرح لذلك يسمي الشركي آلة كناوة بصانعة المسرَّة، مع بمشاركة الطعريجة (نوع من الطبول) والبندير ويقع استخدامها كما يقول، في موسيقى السماع والمديح النبوي.

ويعبّر الشركي عن بهجته بالموسيقى الشعبية بقوله “إن السهر يحلو مع الأحباب والأصحاب برفقة آلات الموسيقى، فهي فاكهتنا ليلة رأس السنة مع الأهل والأصدقاء”.

وفي جانب آخر بارز من رفوف المحل تشاهد الآلات الموسيقية الحديثة، كالكمنجة، والربابة، والعود الشرقي، والغيطة، وغيرها.

يستطرد نكادي صاحب المحل الوحيد لبيع الآلات الموسيقية في الرباط، قائلا عن بضاعة جديدة وردت محله قبل أيام “البضاعة الصينية رخيصة، وهي تلك التي تشاهدها فوق الرفوف، يمكنك أن تقدمها لأصدقائك في رأس السنة، كهدايا غير مكلفة، فهي زهيدة الثمن، وسعرها بين 200 و250 درهما”. ويضيف، “لكن من يريد أن يتعلم العزف على العود أو الربابة، فعليه باقتناء آلات صنعها حرفيّ، لأنها ستلبي له مراده
بتعلم الإيقاعات المضبوطة وبشكل سريع، وإن كانت أغلى سعرا من البضاعة الصينية بمقدار الضعف”.

 

آلات تغني المشاعر
آلات تغني المشاعر

وذكرت فاطمة (28 سنة) التي تعمل مساعدة لزوجها في استقبال زبائن المحل في مثل هذه المناسبات، وتجهيزه بالبضاعة من حرفيّات يعملن في صناعة الحقائب الجلدية، وأدوات المطبخ الخشبية، وصناعة الفخار، قائلة “إن بعض زبائننا من الفتيات، ووجودي ضروري للمساعدة، خصوصا عندما يتوافد علينا فوج سياحي من الأجانب من خمسين فردا أو أكثر. وهم زبائن ممتازون، وينفقون بسخاء على شراء آلات الطرب المغربية التراثية، وما نجنيه من مبيعات في الأيام التي تسبق رأس السنة يسد عجز الشهور الماضية”.

يقول الباحث الموسيقي الفنان عبدالله الشاهد، “المغرب من الدول القليلة في العالم التي تعرف بتنوع إيقاعاتها الموسيقية نتيجة لاختلاف المناطق وطبيعتها السهلية والجبلية والصحراوية، من خلال التناغم بين المكون العربي والأمازيغي للحضارة المغربية، كما أن هذا التنوع سمح بظهور صناعة موسيقية تمثلت في مختلف الآلات الشرقية، والمحلية، ومنها الكنبري، الذي يعد منتوجا موسيقيا مغربيا خالصا”.

ويستطرد الشاهد قائلا، “وبقدر ما يعكس هذا الثراء الموسيقي قوة موروثنا الفني، بقدر ما يواجه العديد من الإكراهات، المتمثلة في ظهور صناعة موسيقية متطورة، وسريعة خاصة مع ظهور التنين الصيني، الذي اكتسح جميع المجالات الصناعية ومنها الحرف التراثية الموغلة في الدقة والتي تتخذ بعدا إنسانيا خاصا مثل الآلات الموسيقية الشعبية التي أصبح يقلدها الصينيون ويوفرونها في الأسواق بأقل ثمن، وهو ما يشكل تهديدا قويا لصناعة آلاتنا الموسيقية التراثية، التي أخذت تنحصر في بعض الأحياء القديمة، بعيدا عن اهتمام الدولة، التي تجعل الثقافة والفن في مؤخرة اهتماماتها، فأصبح الحرفيون رهن قوانين السوق التي لا تعترف إلا بالأقوياء”.

ويضيف الباحث،”إننا نسجل بكل أسف بداية اندثار صناعة الآلات الموسيقية الأصيلة، ومعه انحسار التراث الموسيقي، حيث إن قلة الإقبال على هذه الآلات، هي نتيجة كذلك لظهور أنماط موسيقية عصرية نراها أكثر ابتذالا، ساهمت في تراجع الإقبال على الأنماط الطربية والأصيلة، وهو تحدّ آخر أمام الصناعة الموسيقية التقليدية يضاف إلى التَّحدّي الاقتصادي والتجاري”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: