جيلالي فرحاتي عميد المخرجين المغاربة الذي يملك فلسفته الخاصة
لم تكن الجائزة التي حصل عليها في الدورة 17 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، الأولى في التاريخ الفني للمخرج المغربي الكبير جيلالي فرحاتي، ولكنها الأقرب إليه، رغم أنه نال جوائز على المستوى الوطني والدولي في أرقى وأعرق المهرجانات.
يظهر فرحاتي، داخل المشهد السينمائي المغربي الذي عرفه مخرجا وممثلا وكاتب سيناريو، كوجه لامع برّاق، خلال ثلاثين سنة من احترافه الفن السابع وجلوسه وراء الكاميرا. ليأتي تكريمه في اعتباره عمدة المخرجين المغاربة بمثابة اعتراف لمخرج قدم كل ما لديه دون كذب وإنما حقيقة مطلقة، جلب إليه حب الناس واعترافهم بمخرج وممثل أبدع في تسليط الضوء على قضايا كانت دوما حاضرة في واقع هؤلاء ويعايشونها يوميا.
سبعون عاما تفصله عن أول يوم ولد فيه سنة 1948، أفنى جلها وهو مخرج وسيناريست ومنتج. وكانت بدايته مع أبوالفنون قبل أن تستهويه الصورة المتحركة فيهم نحو السينما التي أعطاها كل طاقته الذهنية والبدنية. لم يدخل الرجل عوالم السينما والمسرح قبلها وهو خاوي الوفاض بل تعمّق في الدرس الأدبي وأخذ أساسيات علم الاجتماع في فرنسا، وهناك أصابته لوثة التمثيل وأسرته النصوص العالمية وكانت خشبة المسرح بالنسبة لفرحاتي هي الميدان الذي ولد فيه حبه للفن، فخدمه هذا التكوين ليكون مستقبلا أحد مؤسسي السينما المغربية المعاصرة.
الإخراج عملية إبداعية بالدرجة الأولى يمكن أن تختلف فيه الرؤى من مخرج إلى آخر حسب منظور فرحاتي الشخصي أو المدرسة التي ينتمي إليها، حيث يلقبه مهنيو السينما بـ”عرّاف السينما المغربية”، ويحتاج إلى خلفية غير محدودة، أي إلى أبعاد يرتكز عليها المخرج، حيث يترك شاشة السينما تحمل قراءات متعددة وعميقة.
مشروع قائم بذاته
نجاح المخرج يرتبط بفهم المشاهد لتلك الرؤية، ومن خلال هذا الفهم العميق للمهنة دعا فرحاتي المخرجين الشباب إلى ضرورة التحلي بالجدية في العمل والإكثار من التساؤلات حول مواضيع مختلفة لأنها تشكل بداية الطريق الصحيح نحو رؤية إخراجية متميزة.
قبل مروره إلى العمل وراء الكاميرا كان فرحاتي قد أخرج عدة مسرحيات ومثّل فيها. وبعدما تمكن من تفاصيل الإخراج دشّن عهده مع السينما مع فيلمه الطويل الأول “جرحة في الحائط” في العام 1977، فكان جالبَ حظه، حيث اهتم به نقاد مهرجان كان بفرنسا، وتوالت منذئذ إنتاجاته السينمائية، ليعود فرحاتي بعد ذلك إلى “كان” في 1982 ضمن فئة “أسبوع المخرجين” من خلال فيلمه “عرائس من قصب” حيث فاز بجائزة الإخراج.
مشاركاته في عدد من المهرجانات المحلية والدولية كانت كشهادة اعتراف بمركزيته في هذا المجال الذي أعطاه الكثير، فقد شارك المخرج المغربي بفيلمه الطويل “شاطئ الأطفال الضائعين” سنة 1991 في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية، كما فاز بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم، ثم الجائزة الكبرى وجائزة أفضل ممثلة لسعاد فرحاتي في بينالي السينما العربية بباريس سنة 1992، والجائزة الكبرى في مهرجان السينما الأفريقية بميلانو، والجائزة الخاصة بلجنة التحكيم، وجائزة أفضل مساهمة فنية في مهرجان نامور، والبرونز في مهرجان دمشق سنة 1993.
استطاعت السينما المغربية أن تثبت حضورها الفعال وتقنياتها المتميزة للعالم، هكذا يقيّم فرحاتي هذا القطاع الهام ببلده، كونها، السينما، تمتلك كل المقومات الفنية والإبداعية اللازمة، التي تخوّل لها المنافسة على أهم الجوائز العالمية، سواء من حيث الممثلين أو المخرجين، مشيرا إلى أن عدة أفلام مغربية حصدت جوائز عالمية مهمّة، وبصمت على مشاركات متميزة في أهم المهرجانات الدولية.
مشاركته في اللقاءات السينمائية الدولية ومنها المهرجان الدولي للفيلم بمراكش كموعد سينمائي هام، تزيد فرحاتي ارتباطا بمنتوجه الوطني ومناسبة يستطلع من خلالها ما تأتي به الساحة الدولية، ومناسبة لتسويق للصناعة السينمائية المغربية، خصوصا وأنه يستقطب أهم المبدعين العالميين، الشيء الذي يمنح فرصا متعددة للتعاون بينهم وبين المبدعين المغاربة.
المشرق البعيد سينمائيا
بعد هذه السنوات الطوال من الممارسة يرى البعض أن فرحاتي أضحى صاحب مشروع سينمائي، فهو مهووس بالفن السابع، ويجمع نقاد السينما على أن أفلام فرحاتي ساهمت بما لا يدع مجالا للشك في إعطاء السينما المغربية المعاصرة ذلك التميّز الذي تعرف به. وملامستها لمسار النقد السينمائي وإثراء الخطاب النقدي المغربي في زمن عرفت فيه العلاقة بين المخرج المنتج والمشاهد المستهلك والناقد المحلل، خلخلة جليّة.
فالسينما، كما يعرّفها فرحاتي، تحتوي مكونات متعددة مثل الإيقاع والتركيب والحكاية والتمثيل والصورة التي هي المنبع الأساس للعملية كلها، وبالتركيز على الصورة يعني أن يكون الحوار قصيرا، وعلى هذا الأساس فالسينما المغربية بدأت تحتل مكانها في عدد من الملتقيات العالمية لأن فيها تنوعا ونموا في الأسلوب والتقنية والجمالية والايجابي هو المواضيع التي بدأت تطرحها.
هناك من يحاجج بأن عدم الانتشار الكبير للسينما المغربية في دول المشرق جاء نتيجة صعوبة اللهجة المحلية. لكن هذا المعطى مجرد عذر غير مقبول وحديث مغلوط، عندما يدافع فرحاتي عن سينما بلده، لأن من وجهة نظره الصورة هي المعتمد للسينما، وما يراه الناس هو كلام السينما وجرأة السينما المغربية عند المخرج المغربي يفسّر عدم الانتشار.
جماليات الصورة والكلمات
شخوص وأبطال أفلام فرحاتي يأتون من هوامش المجتمع ويتغذون من همومه ومشاكله، آمالهم وإحباطاتهم في السياسة والاقتصاد والثقافة، لهذا فإن المغاربة بالنسبة إلى المشارقة يبدون، كما يرى فرحاتي، كأشخاص منحرفين وفيهم جرأة زائدة ليس فقط في الجنس وإنما في المجتمع والسياسة.
اللهجة المغربية كمكون لغوي لجل الأعمال السينمائية لم تكن سببا وحيدا في إحجام المشاهد العربي عن متابعتها بدعوى صعوبتها، فهناك كذلك لغة العمل السينمائية التي ربما لم يستوعبها المشاهد العربي بعد. وهنا يصرّ فرحاتي على رفضه إخراج أفلام باللغة العربية الفصحى لأنها تصلح فقط للأعمال التاريخية أكثر منها للأفلام الاجتماعية التي تتناول مواضيع بسيطة وقريبة من هموم المواطن العادي.
ويبرّر فرحاتي هذا التوجه كون السينما الاجتماعية في حالة استبعاد اللهجة المحلية ستفتقد إلى الواقعية المطلوبة، والدبلجة قد تكون وسيلة سهلة لعرض أفلامنا في صالات السينما العربية وحلا لهذه المشكلة المستمرة منذ سنوات.
قد يرى بعض المتتبعين أن فرحاتي متعصب للهجته المحلية أكثر من انفتاحه على ممارسة الإخراج بلغة فصحى وإبراز ثقافة وحضارة كل ما يعيشه المجتمع المغربي. لكن لهذا المبدع رؤية مبتكرة للأمر، حيث أنه مع عالمية الموضوع في السينما دون إظهار تقاليدنا وعاداتنا في الزواج أو الختان مثلا، لذلك يقول “أخاف أن يصبح الفيلم كبطاقة بريدية فلكلورية”.
وهكذا كانت التجربة الغنية لفرحاتي ولازالت نبراسا باعثا لمجموعة من الشباب أسهمت في انخراطهم داخل الفعل السينمائي المغربي، من بينهم المخرجة ليلى تريكي، التي أقرّت بجميل فرحاتي وأفلامه في تلمّس خطواتها السينمائية الأولى.
الانتقال بين النص الروائي والقصة المجسّدة في صور شخوص متحركة على الشاشة، غالبا ما شكل مجالا للتجاذب بين متفق على أن الجنس الأول سابق على الثاني، وبإمكانه أن يعطيه نوعا من الوزن الأدبي وثقل الحدث. لكن السينما في استقلاليتها وعلاقتها بالجمهور تبدو في نظر بعض النقاد ليست بحاجة إلى الرواية كي تنتشر وتتطور وهناك من العاملين في ميدان الشاشة الكبيرة خصوصا المخرجين من لا علاقة تجمعه بالرواية ولم يطلع على تقنياتها.
وارتباطا بجماليات الصورة السينمائية والحدث الروائي يتبيّن أن فرحاتي يتمتع بإلمام كبير بعوالم الرواية من خلال فيلمه “سرير الأسرار” المقتبس عن رواية بنفس العنوان للكاتب البشير الدامون، وبهذا يكسّر رتابة كتابة السيناريو لنفسه وينفتح على نص روائي لأول مرة في مسيرته
المهنية. وبعبقريته السينمائية لم يكن ليقع في فخ نسخ النص الحرفي إلى نص مصور بل كان وفيا للصورة ورحابتها دون أن يتعسف عن عنوان الحكاية وسرديتها.
شاطئ الأطفال الضائعين
بالنسبة لفرحاتي، فالانتقال من الرواية إلى الفيلم السينمائي هو بمثابة إعادة اكتشاف آخر للنص المكتوب، فالصورة تقول الكثير مما تحاشاه الروائي أو أراد إخفاءه أو لم ينتبه إليه، إنها عملية تأويل من نوع آخر دون أن يتصدّع المتن الروائي، إنها قراءة أخرى بصيغة مصورة.
التجربة التي عاشها البشير الدامون مع فرحاتي شكلت تصالحا بين الرواية والسينما في المغرب، واستجابة الكاتب لرغبة المخرج في الاشتغال على الرواية هي كون فرحاتي سينمائيا يهتم بالمكلومين في المجتمع وبآلامهم وانكساراتهم. فقد نقلت الكاميرا سردية سرير الأسرار إلى لغة مصورة للذاكرة أكثر رحابة وقبولية لدى المتفرج والممثل على حد سواء. ففرحاتي ضد فكرة الانطلاق من رسالة في السينما لأنها تصبح كشعار، فالسينمائي يجب أن يطرح مواضيع بعيدة عن الذاتية، إذ هناك مواضيع قد ترتبط بالأحداث بالصدفة، لكنه لا يجب تعمّد ذلك، والذاتية يجب أن تكون في أسلوب المخرج فقط في الكيف.. الديكور واللباس والشخصيات وغيرها.
الأفلام الروائية لفرحاتي تحظى باهتمام خاص من طرف النقاد المغاربة والمهتمين بالفن السابع، وهي لازمة اتفق عليها مجموعة من مهنيي السينما خلال شهادات متواترة في حق مخرج “شاطئ الأطفال الضائعين”.
برأي النقاد أفلام فرحاتي ليست للاستهلاك، كما يرى مندوب المركز السينمائي المغربي بالدار البيضاء محمد باكريم، بل إن سينماه تطرح برنامجا متكاملا يشتغل عليه النقاد، ينطلق من بلاغة عناوين أفلامه، ويمر بتوظيف بليغ للدال السينمائي في خدمة المدلول، فتظهر فضاءات السجن كجزء جغرافي وإنساني، وثيمة أساسية في أفلام فرحاتي متعدد الوظائف والغايات كفيلمي “ضفائر”، و”ذاكرة معتقلة”، فالسجن عند فرحاتي حسب عدد من النقاد فضاء للكتمان وتجاوز لزلات الماضي بدل اعتباره فقط كمؤسسة زجرية.
ونظرا لجرأته وأصالته فقد فاز فيلم “ذاكرة معتقلة” سنة 2004 بعدة جوائز أبرزها جائزة أفضل سيناريو في مهرجان القاهرة الدولي، والجائزة الكبرى بمهرجان روتردام للسينما العربية، وجائزة الإخراج في الدورة الأولى من مهرجان السينما المغاربية بوجدة، والجائزة الكبرى بمهرجان السينما المتوسطية بتطوان، وجائزة خاصة من لجنة تحكيم المهرجان الدولي بالرباط.
“كلما تحدثت السينما أكثر فقدت قوتها في الصورة، وكلما اعتمد الفيلم على الحوار أكثر فقدت الصورة خطابها”، هذه هي المعادلة التي استنتجها فرحاتي من ممارسته للفن السينمائي، والغيرة على أفلام السينمائي ضرورية حيث يراها بعين مختلفة عما يراها الآخرون، معتقدا أن هذا ما يمنح المبدع مجالا أوسع ليتقدم في مسيرته نحو أفق مفتوح.