لماذا يشيطن الفرنسيون الآخر
يعتقد فرنسيان من كل عشرة أن فرنسا في حالة حرب مع الإسلام. كما أن النسبة نفسها تقول بأن المواطنين المسلمين غير مندمجين في المجتمع الفرنسي وتحمّلهم مسؤولية ذلك الفشل. ويضيف استطلاع الرأي نفسه الذي قام به معهد “إبسوس” سنة 2017 أن ثلاثة أرباع الفرنسيين يظنون بأن الإسلام يسعى إلى فرض أسلوبه عليهم في العيش. ومن جهة أخرى يقول التحقيق أن أربعة من أصل عشرة فرنسيين يدينون بالإسلام قد تم شتمهم وكانوا ضحية ملاحظات مسيئة وأن 13 بالمئة منهم قد تعرّضوا لاعتداءات جسدية بسبب دينهم.
في كتابه المعنون “هاجس الإسلام/لماذا تشيطن فرنسا المسلمين؟” يذهب الباحث في العلوم السياسية توما غينولي نفس هذا الاتجاه، إذ يفترض أن المسلمين يعانون من تفرقة عنصرية ومن كره وتمييز في فرنسا ثم يحاول أن يشرح الأسباب التي أدت إلى ذلك. فيرى أن “التقهقر النسبي” الذي مسّ فرنسا هو سبب موجة الخوف المرضي من الإسلام.
وهكذا تكوّنت لدى المجتمع الفرنسي نظرة مشوّهة بل هاذية عن الأقلية المسلمة التي لا يتجاوز عددها نسبة 7.5 بالمئة من مجموع سكان فرنسا. فبالنسبة للذين وقعوا في فخ الكراهية، يقول توما غينولي، فالمسلمون لا يستطيعون ولا يريدون الاندماج بل ليس هذا فحسب بل كادت العصبية الدينية أن تصبح هي الغالبة بينهم.
ويستنتج الكاتب من التجربة التاريخية الفرنسية تعاقب ثلاثة مواقف تجاه الأقليات: القبول، الشيطنة والاضطهاد. ويجد دافعين أساسين للسقوط في شيطنة الأقليات واضطهادها، أولهما خطورة التوترات الداخلية التي يعيشها المجتمع الفرنسي وثانيهما ذلك الشعور الجماعي بالفشل الذي يستبد بالأغلبية جراء التقهقر النسبي لفرنسا كقوة عالمية.
وهو ما حدث في القرن السادس عشر حينما قمعت الأقلية البروتستانتية بينما كانت فرنسا في حالة ضعف أمام الإمبراطور شارل الخامس الذي كان يطوّقها. وفي القرن التاسع عشر كان لهزيمتها سنة 1870 وإهانتها من طرف بروسيا الأثر الأكبر في صعود المعاداة للسامية.
أما في الوقت الحاضر فالعولمة كرّست اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي أججت التوترات الداخلية في المجتمع الفرنسي. وذلك بسبب تقهقر فرنسا النسبي على المستوى البنيوي ديموغرافيا وجيوسياسيّا، وهو ما أدى إلى انكماشها السريع كقوة دولية. ومن البديهي والحال هذه، حسب صاحب الكتاب، أن يصل البلد إلى مرحلة قصوى في شيطنة الأقلية المسلمة. ونفس الدوافع تؤدي إلى نفس الظاهرة في بلدان أخرى كالولايات المتحدة الأميركية بزعامة دونالد ترامب.
ويضرب مثالا بتلك البلدان في أوروبا الوسطي التي لا تتحرّج من الإفصاح عن شرط مخجل في مسألة استقبال اللاجئين، إذ لا تقبل على أراضيها سوى من كانوا غير مسلمين.
ولا يتواني توما غينولي في اتهام وسائل الإعلام في صعود هذا الخوف والرفض للإسلام ويميّز بين نوعين من الخطاب المعادي: يتمثل الأول في خطاب حقد دائم تجاه الأقلية المسلمةـ مكررا أن الفرنسيين المسلمين متعصبين لدينهم وليس بمقدورهم الانسجام مع الثقافة الفرنسية لأن قيمهم وثقافتهم متعارضة مع الحياة الفرنسية. وحتى مظهرهم الخارجي يطرح إشكالا وهم “طابور خامس” في خدمة قوى أجنبية هدفها تخريب فرنسا وحضارتها.
أما في الخطاب الثاني فيجد الكاتب عدة تحيّزات في تناول الأخبار كعناوين الصحف والمجلات والتي لا تتردد مثلا في وضع “شهادة لا إله إلا الله” بالخط العربي على صدر صفحاتها الأولى وهي تتحدث عن الإرهابيين الجهاديين. كما تميل إلى الحجب إذ لا تذكر أبدا أن 8 فرنسيين مسلمين من أصل 10 هم مع المساواة بين الرجل والمرأة ومع العلمانية. ويتأسف على أن الحديث إيجابيا عن المسلمين لم يعُد يجذب القرّاء والمشاهدين.
يرى الكاتب أن اللائكية هي أيضا من المفاهيم التي تم تحريفها وتشويهها في الخطابات السياسية والإعلامية. فمنع ارتداء الحجاب في المدارس العمومية الفرنسية في نظر المؤلف لا يتوافق مع اللائكية الحقيقية المجسّدة في قانون 1905 الذي يؤكد على حياد الدولة والإدارات والخدمات العامة في مسألة الروحيات وليس حياد المواطنين الذين يتعاملون معها.
ويصل إلى الاستنتاج أن هناك معركة بين اللائكية الحقيقية واللائكية المشبوهة التي تريد اغتصاب اللائكية بحثا عن المزيد من المنع الذي يطال الفعل الديني الإسلامي وطرده نهائيا من الفضاء العام. أما عن مطالبة المسلمين بـ”الاندماج” فيرى صاحب “هاجس الإسلام/لماذا تشيطن فرنسا المسلمين؟” أن هذا المصطلح غير مفهوم، ويبدو أن الكثير من المسؤولين السياسيين يجهلون أن الاندماج لا يتم بمرسوم بل هو عملية سوسيولوجية قد يتم تسريعها اعتمادا على عوامل معينة على رأسها الزواج المختلط، والذي تتفوق فيه فرنسا على كل البلدان الأوروبية إذ هو في تقدّم مستمر في هذا البلد رغم التوجّس الفرنسي تجاه الإسلام.
كما يمكن أن تعطل بسبب عوامل معيّنة كالبطالة على وجه الخصوص. وفي هذا الصدد يكتب الباحث أن البطالة تمس 30 بالمئة من الفرنسيين المسلمين، بينما لا تمسّ سوى 12 بالمئة من مجموع السكان غير المسلمين. ومن هنا فإن بطء اندماج الأقلية المسلمة في المجتمع الفرنسي يعود إلى تعثر اندماجها الاجتماعي والاقتصادي.
تعيش فرنسا، حسب المؤلف، بوجهين منذ الثورة الفرنسية على الأقل: فرنسا التي تؤمن بأن البشر سواسية في الحقوق والواجبات مقابل فرنسا التي تعتقد أنهم غير متساوين. فرنسا التي لا تكترث بلون بشرة الناس أو أصلهم أو اتجاهاتهم الدينية مقابل فرنسا معاكسة تؤمن بدونية وأفضلية إنسان على آخر. فرنسا الجمهورية والعالمية مقابل فرنسا الرجعية المهووسة بالهوية. واختصارا هناك فرنسا الأخوة مقابل فرنسا الحقد.
ورغم كل ذلك يبقى الكاتب متفائلا مناضلا من أجل فرنسا إنسانية جمهورية وأخوية “أنا مقتنع أشد الاقتناع، أنه لو انتفض ملايين الفرنسيين الذين يؤمنون بمثل الجمهورية ضد أنصار الحقد لانتهت الإسلاموفوبيا في قبرها الطبيعي: مزبلة التاريخ”.
ولكن ما تجاهله أستاذ العلوم السياسية توما غينولي هو ذلك التغلغل الخطير للإخوان المسلمين والسلفيين بين الجاليات المسلمة، ليس في فرنسا فحسب بل في أوروبا كلّها ونشرهم لأفكار معادية لقيم المجتمع المضيف كادت أن تصبح عقبة كأداة أمام اندماج المسلمين بشكل طبيعي، بل ودفع بعضهم إلى حمل السلاح ضد المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها.