شخص مرحب به: الفن في مواجهة العنصرية الأوروبية

يَقترح المفكران الفرنسيان غيوم لوبلانك وفابيان بورجية في كتابهما “نهاية الضيافة”، تحوّل أوروبا إلى مساحة عدوانيّة ترفض “الآخر”، عبر تبنّيها مجموعة قوانين وأجهزة لدفع المهاجرين إلى “الخارج”، وعزلهم في مخيمات ومساحات استثناء، بل إن سياساتها العدوانيّة هذه، امتدت نحو مواطنيها أنفسهم، الذين يخضعون للمحاكمات ويدفعون الغرامات، لتسهيلهم عبور اللاجئين ومساعدتهم على الاستقرار، إلى جانب تفعيل القارة العجوز لمفهوم “الإنقاذ” عوضاً عن “الاستقبال”، ما يعني حلولاً مؤقتةً، أخلاقيّةً في الظاهر، لكنها تختزن ضمنياً، نفياً سياسياٌ وثقافياً للآخر المهاجر.

دفعت مفاهيم “نهاية الضيافة” السابقة المتحف الوطنيّ للهجرة في باريس، ومتحف الفن المعاصر في ضاحية فال دو مارن، لإقامة معرضٍ بعنوان “Persona grata” والتي تعني “شخصٌ مرحبٌ به”، وفيه يستضيف المتحفان في ذات الوقت، مجموعةً من الأعمال الفنيّة المعاصرة التي تُسائل الظواهر الاجتماعيّة والثقافيّة المرتبطة باستقبال اللاجئين، وتعكس أشكال وسياسات الضيافة الحاليّة، ما يجعل العمل الفنيّ والمؤسسة الثقافيّة (المتحف) يقفان بوجه السلطة، ويضيئان على النشاط الاجتماعيّ المدني، وضمن هذه المواجهة، يتحوّل “الفن” إلى أثرٍ مرئي فعّال، يكشف عدوانيّة خفيّة ضد القادمين الجدد.

تسعى الأعمال المعروضة إلى مخاطبة قضية اللاجئين، وجعل التجربة الجماليّة وسيلة لفضح التكوين الرمزي والقانونيّ للنظام القائم والسياسيات التي تتحكم بتوزّع “الغرباء”، وحركتهم في الفضاءات المختلفة، سواء أثناء هجرتهم أو في “البلاد الآمنة”.

تتضحُ العمليّة السابقة أمامنا، عبر الموضوعات التي قسّم لها المعرض، وأولها بعنوان “نداء الطوارئ”، سواء ذاك الذي واجهه المهاجرون حين اتخذوا قرار ترك بلادهم والخطر الذي تحويه، أو الذي يواجهه الأوروبيون الذين من المفترض أن يرحبوا بالقادمين الجدد بعيداً عن أي اعتبار. ما يتركنا أمام “الطريق”، ورحلة العبور إلى الأمان، التي يُهدّدُ فيها المهاجرون في كل لحظة، فالطريق برياً كان أو بحرياً يشكّل خطراً على حياة الهاربين، في ذات الوقت يمثّل حُلماً يوتوبياً بالاستقرار.

الصورة اليوتوبيّة للحلم تتفكك
الصورة اليوتوبيّة للحلم تتفكك

وهذا ما نراه في العمل الفوتوغرافي “المنزل” لإنريك راميرز، إذ نتأمل غرفةً انتظارٍ تطفو على الماء، هي شبه مكان آمن وشبه حميمي، النجاة فيه مؤقتة، كونه محاطا بالغرق واحتمالاته، وهنا تتفكك الصورة اليوتوبيّة للحلم، فالطريق/ البحر خطرٌ، وركابه مكشوفون لنا وللتهديد الدائم، أما المنزل الآمن الذي تهدف إليه “الهجرة”، قد لا يكون إلا غرفة انتظار، بوصفها معادلاً لسياسات أوروبا، التي تترك القادمين الجدد معلّقين في مخيّمات وفضاءات مؤقتة لا استقرار فيها.

الموضوعة الثانيّة في المعرض هي “السِحر”، والمقصود هنا القدرة والرغبة بالتعرّف على الغريب، واكتشافه بوصفه مرآة للذات وأحياناً وسيلة للخلاص، سواء على الصعيد الفردي أو السياسيّ، وهنا نُشاهد عملاً بعنوان “شخص مرحب به” للفنان لهواري محمد باكير، الذي كتب العبارة السابقة بالنيون المضيء، وكأنه يسخر من الإعلانات العدوانيّة التي يستهلكها الأوروبيون، ولا نقصد هنا الواضحة منها، كالقرارات السياسيّة والحملات الانتخابيّة، بل تلك التي تختفي وراء اللعب والترفيه، هي تحيط بالأوروبيّ، وتوحي له بأن هناك من هم غير مرحب بهم كما في الأفلام والبرامج التلفزيونيّة المختلفة.

ننتقل مع الموضوعة الثالثّة إلى الإنقاذ والاستقبال ومعانيهما، فالأولى تترك الفرد على حوافّ الحياة، أو حياً فقط، في حين أن الثانيّة تضمن استمراره، لكنها تتطلب جهداً سياسياً واجتماعياً، لخلق مساحات آمنة وصالحة لا فقط للحياة، بل للإنتاج على كافة المستويات.

 أعمال تنشد البحث عن وضعية للمهاجر لا يخضع فيها للمضيف
 أعمال تنشد البحث عن وضعية للمهاجر لا يخضع فيها للمضيف

وهذا ما نراه في فيديو للفنانة الكوريّة الشماليّة كيم سوجا، إذ نشاهد شاحنة تتجول في باريس، محمّلةً بأكياس قماشيّة، تحوي ثيابا وأغراضا لعائلات مُهاجرة، أفرادها أحياء دون مساحات تؤويهم، هم مشرّدون في المدن الكبرى، أو مكدّسون في مخيّمات كي لا يعيقوا حركة السير.

يُحيلنا ما سبق إلى الموضوعة الرابعة، ذات عنوان “هل أبقى أم أذهب”، التي تُضيء على رغبة “الآخرين” بالاستقرار، والصعوبات التي يواجهونها، فهم يحلمون بمأوى وجيران وعمل، لكنهم دوماً مُعلّقون، بين متخيلات عن منزل حميمي وواقع قاسٍ مُصمم لـ”طردهم”، وهذا ما نشاهد أصداءه في فيلم “يوم ستريم سايد”، الذي يوثق احتفالاً بتأسيس قرية وهميّة، اخترعها الفنان بيير هيوغ، حيث يتنكر قاطنوها الجدد بأزياء مختلفة وكأنهم في كرنفال، لنرى أنفسا في عالم مُتخيّل يُرحبُ بالجميع، كباراً وصغاراً، سواء كانوا بثياب رسميّة أومُتنكرين بزي أرنب، أو رجل آلي أو زرافة، وكأننا نشاهد اليوم الأول لافتتاح يوتوبيا فانتازيّة، الجميع فيها يعيشون بسلام وعلى أهوائهم.

الموضوعة الأخيرة في المعرض التي تحمل عنوان “أفق جديد”، تشير إلى محاولات خلق سياسات جديدة، لا تنشأ ضمنها قوانين وأعراف يَخضعُ فيها الزائر للمُضيف، بل تخلق شكلاً من التآخي الذي يضمن للجميع حياتهم واستمرارهم، ضمن صيغة تتلاشى فيها الحدود والاختلافات، فلا بحر ولا سياج ولا جدران فاصلة، وهذا ما يقاربه شعرياً إنريك رومير، في منحوتة باسم شراع مهاجر، يصفه بأنه الحركة ذاتها، هو حر لا ينتمي إلى عالمنا وقيوده، هو غرض مهاجر دوماً.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: