الراعي والزبون: هل سنشهد «سترات صفراء» عربية؟

يصعب تتبع مدلولات سياسية واضحة لحركات اجتماعية على غرار «الربيع العربي» و«السترات الصفراء»، لأسباب تتعلق بالمدى الجغرافي والسياسي الواسع لانتشارها، وتنوع قواعداها الاجتماعية، ومآلات تطورها غير القابلة للتنبؤ.
في حالة «الربيع العربي» كان الصراع حول المعنى حاضراً دوماً ضمن الخليط غير المتجانس من المتظاهرين (على غرار «مدنية» أم «إسلامية»، ديمقراطية تمثيلة أم ديمقراطية مباشرة، فردانية ليبرالية أم جماعاتية وطنية، تحرير السوق أم عدالة اجتماعية؟). أما «السترات الصفراء» فأصبحت، رغم سمْتها الطبقي الواضح، رمزاً قابلاً لتأويلات متعارضة، فتارة نراها شعاراً يستعيره اليمين المعادي للمهاجرين، كما في التحركات المحدودة لليمين الألماني. وتارة أخرى تستعمل في مظاهرات مؤيدة للهجرة، كما حدث في روما مؤخراً.
رغم كل هذا فهنالك معنى يمكن تثبيته بوضوح لهذه التحركات، تم فهمه واستعماله ونقله من بلد إلى آخر: مدلول الربيع العربي الأساسي كان «الاحتلال»، أي قيام المتظاهرين بالاستيلاء على المجال العام، متجسدا جغرافياً ورمزياً بالساحات العامة للمدن، ليس فقط لطرح مطالبهم، بل لإنتاج نسخة جديدة أكثر تحرراً لـ«العالم» نفسه، أي المتحد السياسي المدني الذي يديره المواطنون، وهو الصيغة الأكثر ثورية لفكرة الديمقراطية، التي تعني المطالبة بها بالضرورة أن المؤسسات القائمة، السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، لم تعد مقبولة، أو قادرة على تأدية الوظائف التي يريدها المحتجون. السترة الصفراء بدورها أصبحت تعويضاً رمزياً لتشتت العاملين والمنتجين المفقرين، وتباعدهم المكاني والاجتماعي. يمكن بشكل من الأشكال اعتبارها محاولة لإيجاد نظير للياقة الزرقاء (التي تميز ملابس عمل الطبقة العاملة الصناعية) وأشكال التضامن التي كانت ترمز إليها، في عصر فقد فيه نموذج المعمل المنظم على الطريقة التايلرية- الفوردية أولويته وأهميته السابقة. إذا أخذنا هذه المدلولات بعين الاعتبار، فهل من الممكن حقاً أن تشهد الدول العربية، في ظرفها الحالي، نظيراً للسترات الصفراء، أو حتى موجة ثانية من الربيع العربي؟

أثار حراك السترات الصفراء الفرنسي كثيراً من الجدل في دول الجوار الأوروبي. في ألمانيا مثلاً يرى أغلبية «الخبراء» أن بلادهم، كالعادة، ليست فرنسا، وذلك لأن المركزية الفرنسية تضع المواطنين دوماً في مواجهة مباشرة مع الدولة وأجهزتها.

الزبائنية والهيئات الوسيطة

أثار حراك السترات الصفراء الفرنسي كثيراً من الجدل في دول الجوار الأوروبي. في ألمانيا مثلاً يرى أغلبية «الخبراء» أن بلادهم، كالعادة، ليست فرنسا، وذلك لأن المركزية الفرنسية تضع المواطنين دوماً في مواجهة مباشرة مع الدولة وأجهزتها، في حين يلعب حضور «الهيئات الوسيطة» مثل «مبادرات المواطنين»، وأشكال الحكم الذاتي في المجتمعات المحلية، دوراً حاسماً في النظام الاتحادي الألماني، ما يؤمن قنوات مناسبة لحل الإشكالات والصراعات الاجتماعية، بدون الدخول في صراع مع السلطة المركزية. هذه الفكرة، التي ترى أن فرنسا تدفع دوماً ثمن نزعتها الجمهورية المركزية، قد لا تكون دقيقة تماماً، إلا أنها مفيدة جداً في فهم السياق العربي، الذي عرف حضوراً كبيراً لـ«الهيئات الوسيطة»، ولكن ليس على الطريقة الألمانية بالتأكيد.
أفضل مفهوم لتحديد «الهيئات الوسيطة» العربية هو «الزبائنية»، وهو أسلوب سياسي واجتماعي معروف منذ العصر الروماني، يقوم على علاقة ثنائية غير متكافئة بين راعٍ، أي شخص يملك النفوذ والسلطة، وزبون، وهو طرف يحتاج إلى دعم وحماية الراعي لقضاء حاجاته وتسيير حياته. يقوم الراعي بالتوسط بين الزبون وأجهزة السلطة، ويسعى دوماً لتوسيع قاعدته من «الزبائن» مقابل مكاسب مادية وسياسية يجنيها منهم، ما يجعل الفساد والمحسوبية والتبعية ركائز أساسية في هذا «النظام». يربط عدد من المفكرين الزبائنية العربية بما يسمى «نمط الإنتاج الآسيوي»، وهو مفهوم شديد الالتباس، اختلف المؤرخون وعلماء الاجتماع طويلاً في تحديد ماهيته، بل حتى في الفائدة من استخدامه، إلا أنه عموماً يقوم على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي جهاز دولة شديد الضخامة، يشرف على النواحي الأساسية للنشاط الاجتماعي والاقتصادي لرعاياه، وينتزع الفائض الإنتاجي منهم بأساليب «غير اقتصادية»، أي عبر القوة والهيمنة الأيديولوجية؛ والثانية هي ضعف الملكية الخاصة وعدم ضمانها، ما يجعلها «حيازة» أكثر من كونها «ملكية». ضمن هذا النظام يقوم الرعاة، الذين قد يكونون زعماء قبائل ومشايخ قرى ووجهاء محليين، أو فقهاء وزعماء ملل، أو موظفين متنفذين في جهاز الدولة، بالتوسط بين «العامة»، المحرومين من القاعدة المادية والسياسية لاستقلالهم، بسبب ضعف الملكية وتغوّل جهاز الدولة واستبداديته، والسلطة كلية القدرة، مقابل منافع يجنونها من الجانبين. إلا أنه لم يوجد تاريخياً «نمط إنتاج آسيوي» صافٍ، وفي العصور الحديثة تراكبت في الدول العربية أنماط الإنتاج المختلفة مع بعضها بعضا، فنرى عناصر رأسمالية وآسيوية وشبه إقطاعية تعمل بشكل متداخل ضمن المنظومة العالمية للاقتصاد الرأسمالي، الأمر الذي وسع قاعدة الزبائنية بدلاً من تقليصها، فهي تعمل بين الدولة والرعايا، وتتداخل بين الأنماط المتراكبة للإنتاج، فنرى مثلاً رجال أعمال «حديثين» يوسعون استثماراتهم بالاستعانة بالعلاقات الزبائنية، وكذلك بين الإنتاج المحلي والاقتصاد العالمي، حيث يعمل الرعاة وسطاء بين السوق العالمي وجهاز الدولة والمنتجين المحليين.
أنتجت الزبائنية سياسياً سلسلة من التنظيمات الوسيطة، ذات طابع ديني أو طائفي أو مناطقي أو حتى مافيوي، ساهمت من جهة بتأمين نوع من الحماية للسكان من بطش الدولة، إلا أنها من جهة أخرى أعاقت التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي. كثير من النزعات الثورية عبر التاريخ العربي كانت تستهدف «الوجهاء المحليين» و«الموظفين الفاسدين» المسؤولين عن حالة الجمود والتخلف. في حين أدى تعذر نمو الفئات والطبقات الاجتماعية إلى جعل الجيش المنفذ الوحيد للقضاء على الشبكات الزبائنية القائمة، ما سبب سلسلة من الانقلابات العسكرية، التي سرعان ما عادت لتنتج شبكات زبائنية جديدة بدورها. أن تقوم ثورة ضد جهاز الدولة العربية فهذا يعني أن التنظيمات الزبائنية الوسيطة لم تعد تعمل وتؤدي مهامها في تأمين الاستقرار، وربما يكون هذا جوهر الربيع العربي.

في حالات كثيرة عاد «الشعب» للبحث عن رعاة جدد أكثر رثاثة من الرعاة السابقين: زعماء ميليشيات أو رجال دين أصوليين أو عسكر أشد تسلطاً وفساداً.

ثورات «الزبائن»

يمكننا أن نعدد عوامل كثيرة لانهيار الشبكات الزبائنية التقليدية في مطلع هذه الألفية، فهنالك الأزمة المالية العالمية، وما خلفته من اضطراب في «مركز» النظام العالمي و«أطرافه»، فضلاً عن تكلس الدولة العربية، وعدم قدرتها على تأدية وظائفها التقليدية، بسبب طول حال الجمود الذي عايشته. إلى جانب النمو الديموغرافي، وتحسن المستوى الثقافي والتعليمي لفئات واسعة من السكان، المترافق مع اضمحلال الفئة الوسطى نتيجة سياسات الخصخصة و«التحرير الاقتصادي»، دعك من النتائج الثقافية للعولمة والانفتاح على الخارج.
لا يمكن في هذه الظروف لثلة من الموظفين والعسكريين الفاسدين والزعماء المحليين أن يستوعبوا كل ما يحدث، ويوفــــروا شبكات من الوساطة الضرورية للاستقرار، فكان الربيع العربي محاولة لاحتلال المجال العام، أو بالأصح «ابتكاره»، لتحويل «الزبائن» إلى «شعب» بدون وساطة الرعاة. «الشعب يريد…»: هذا ما قاله المتظاهرون. والميدان أصبح في مواجهة مباشرة مع جهاز الدولة. تحويل حالة التبعية إلى أكثر أشكال الديمقراطية راديكالية كان «وثبة إلى الأمام»، بكل الحمولة الدلالية لهذا التعبير.
إلا أن الحالة الزبائنية لها أسس مادية وثقافية قوية، ولا يمكن إلغاؤها بوثبة واحدة، مهما كانت واعدة، ونتيجة الربيع العربي الأولية كانت دولاً فاشلة، وإعادة إنتاج الزبائنية: في حالات كثيرة عاد «الشعب» للبحث عن رعاة جدد أكثر رثاثة من الرعاة السابقين: زعماء ميليشيات أو رجال دين أصوليين أو عسكر أشد تسلطاً وفساداً.

ذرات اجتماعية عربية

سبق لنا القول إن الحالة العربية تعرف تراكباً لعدد من أنماط الإنتاج المختلفة، ينعكس هذا على مفهومي «الفرد» و«الطبقة» العربيين، لاحظ الباحث المصري نزيه الأيوبي أن الفرد في المجتمع العربي لم يعد جزءاً من «جماعة عضوية» كما كان سابقاً، إلا أنه لم يصبح «ذرة اجتماعية» كما في الأنماط الاجتماعية الرأسمالية، فهو يحمل سمات متداخلة من النموذجين، من الناحية الطبقية هنالك فئات اجتماعية لم تصبح طبقات بعد، ولم تعد في الوقت نفسه مللاً أو عشائر.
إذا كانت السترة الصفراء رمزاً لاستعادة وحدة الأفراد المتذررين في الغرب، فهي في بلاد العرب قد تكون دالاً لمدلولات متراكبة: منتجون مفقرون وعاطلون عن العمل وعمال بلا حقوق، محتجون على الزبائنية الجديدة (كما في الحالة العراقية)، تحركات شبه عشائرية وشبه مدنية (الحالة الأردنية)، حراك مختلط ضد جمود المؤسسات السياسية القائمة (كما في تونس)، أو محاولة جماعات سياسية تقليدية لإعادة تدوير ذاتها (نشاط الأخوان المسلمين مثلاً).
لا يمكن التنبؤ إذا كانت «السترات الصفراء» ستؤدي لانطلاق موجة ثورية عربية جديدة، خصوصاً بعد حالة الانهيار الشامل التي خلّفها الربيع العربي، ولكن كل حراك ممكن سيكون بالتأكيد شبيهاً بحال «الذرة الاجتماعية» العربية: كثير من التشوش والتعقيد وتراكب المستويات المختلفة، مزيج لاذع المذاق من «الرجعية» و«التقدمية». رغم ذلك فإن «الحركة بركة» وفقاً للمقولة الشعبية، وقد يكون الحراك الاجتماعي، بآلامه العديدة، منطلقاً للخروج من حالة الانحطاط الشامل، وإعادة تأسيس الوجود السياسي والمؤسساتي العربي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: