تعديل الدساتير العربية.. لماذا لا يتعلم الحكام من التاريخ
المشهد يتكرر، مطالب شعبية لتعديل فترة الرئاسة في الدستور بغرض تمديد بقاء الحاكم في موقعه، ثم دعوة الشعب إلى الاستفتاء على التعديل المقترح، وسط حملات إعلامية تتحدث عن الضرورة والأمل والأحلام والمشروعات المعلقة.
يمر التعديل بنجاح ليُكرس لأبدية بعض الرؤساء في دول تدّعي الديمقراطية، غير أن النتائج غالبا ما تأتي سلبية، وفي الكثير من الأحيان لا يستفيد الحاكم من التعديل ويصُب في مصلحة من يخلفه.
وكما يقول هيغل “إن التاريخ يُعلمنا أنه لا أحد يتعلم من التاريخ”، تصر بعض الدول العربية على استنساخ التجارب الكارثية، وقد يكرر الساسة والنخب خطاياهم السابقة دون تعلم من الدروس.
في الجزائر استجاب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لدعوات، جاهزة، المحيطين به وقام عام 2008 بتعديل الدستور، الذي كان يمنع تولي الرئاسة لأكثر من فترتين، ما سمح له بالترشح لولاية ثالثة، ثُم رابعة رغم تدهور صحته، وبعد نحو ثمانية أعوام تم تعديل الدستور الجزائري مرة أخرى ليعيد بوتفليقة فترة الرئاسة إلى فترتين بحد أقصى.
وقام برلمانيون في السودان، مطلع دجنبر الحالي، بجمع توقيعات لتعديل المادة رقم 57 في الدستور السوداني الموضوع سنة 2005، لجعل عمر حسن البشير رئيسا مدى الحياة.
وتمثل مصر نموذجا واضحا لفكرة استسهال تطويع الدستور لخدمة الحاكم. وفي الآونة الأخيرة تزايدت أحاديث التعديل داخل الغرف المغلقة، بما يسمح للرئيس عبدالفتاح السيسي، بالترشح لفترة رئاسية ثالثة، وربما رابعة وخامسة. ووصل الأمر إلى إجراءات فعلية تستهدف طرح فكرة تعديل الدستور للمناقشة في البرلمان، وقام محام مغمور برفع دعوى أمام القضاء الإداري لإلزام البرلمان بمناقشة تعديل فترة الرئاسة في الدستور.
مصر تمثل نموذجا واضحا لفكرة استسهال تطويع الدستور لخدمة الحاكم
وتنص المادة 140 من الدستور المصري على أن “رئيس الجمهورية يُنتخب لمدة أربع سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالي لانتهاء فترة رئاسة سلفه، ولا يجوز إعادة انتخابه إلا لمرة واحدة فقط”.
والأخطر أن تعديل المادة السابقة أمر بالغ الصعوبة، بسبب وجود مادة أخرى يُسميها البعض “مادة فوق دستورية”، وهي المادة 226 وتنص على أنه “وفي جميع الأحوال، لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية، أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقاً بالمزيد من الضمانات”.
وتكشف القراءة التاريخية للدستور المصري أن كل تعديل استهدف خدمة مراكز بعينها لم تُحقق أهدافها. والثابت أن الرئيس الراحل أنور السادات كان ممن يرون في بداية حُكمه ألا تتجاوز فترة الرئاسة مدة الفترتين، ونص دستور عام 1971 على أن “الرئيس يحكم لمرة ويجوز انتخابه لفترة أخرى” (كل فترة ست سنوات).
وقبيل انتهاء الفترتين بقليل، دعا مقربون منه إلى تعديل الدستور، وهو ما تم ليُغيّر كلمة “فترة” أخرى إلى “فترات”.
ولم يستفد السادات من التعديل، حيث تعرض للاغتيال في 6 أكتوبر سنة 1981، واستفاد بمد فترات الرئاسة خلفه حسني مبارك، الذي حرص رغم إعلانه في البداية عن ضرورة أن تكون فترة الرئاسة مُحددة لا مطلقة، على عدم تعديل الدستور.
وظل مبارك يترشح لست فترات رئاسية، غير أنه سمح في 2004 لأول مرة بتعديل الدستور بما يسمح بترشح منافسين له، واعتبر البعض أن تعديل الدستور استهدف تهيئة المناخ لترشح ابنه جمال مبارك خلفا له، غير أن الحلم والترتيبات أفلا في ظل انتفاضة 25 يناير 2011 وسقوط النظام المصري الحاكم برمته. كذلك الحال عندما وصل مرشح جماعة الإخوان محمد مرسي إلى السلطة في يونيو 2012، حيث أصدر إعلانا دستوريا يُحصن به كافة قراراته، ما زاد الغضب الشعبي تجاهه وساهم في دفع جموع الشعب لأن تخرج في مسيرات 30 يونيو 2013 للمطالبة بإقصائه، ما انتهى به إلى المحاكمة والسجن.
ويرى يحيي حسين عبدالهادي، المتحدث باسم الحركة المدنية الديمقراطية (معارضة)، أن الحاكم يفقد الذاكرة سريعا وينسى دوما كل ما قاله عن زهده في منصب الرئاسة.
ويشير لـ”أخبارنا الجالية ”، إلى أن “واضعي الدستور المصري الأخير وضعوا مادة تحظر أي تعديل خلال فترة الرئيس الحالي تحديدا ووافق عليها الشعب وأقسم الرئيس على الالتزام بها”.
ويرى البعض أن الرئيس السيسي نفسه لا يرغب في تعديل الدستور لصالحه، لكنّ الكثير من الدوائر المحيطة به تضغط في هذا المسار، ولا تتوانى عن إيجاد الحيل الواجبة للتغيير.
ويؤكد عبدالهادي، أن واجب السيسي أن يبادر بإعلان رفضه لتلك التصرفات المهينة بحق الشعب المصري، ولا يتعمّد التغافل عنها، حتى ولو من باب جس النبض، فكلمته هي الفصل في هذا المجال ليخرس المطالبين بالتعديل.
معركة تعديل أو عدم تعديل الدستور تظل أحد الاختبارات المهمة التي يواجهها الرئيس السيسي
وعلى الجانب الآخر، فإن لدى المطالبين بتعديل فترة الرئاسة في الدستور منطقا مختلفا، ويرون أن فترة الرئاسة في الدستور المصري قصيرة جدا ولا تفي بمنح الحاكم الفرصة لتنفيذ برنامجه من مشروعات وطموحات، والظروف الحالية الخاصة بمكافحة الإرهاب تدفع إلى ترسيخ دعائم النظام القائم لمواصلة مواجهته. وكشف جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان (جنوب القاهرة)، لـ”العرب” عن أن الدستور الحالي “معدل للدستور الذي وضعه الإخوان المسلمون في سنة 2012، وإسقاطه ضرورة لاستكمال مسيرة ثورة 30 يونيو”. وكان ينبغي أن يتم منذ البداية، فالثورة تعني إسقاط كل إرث الماضي.
ولفت عودة إلى أنه يُمكن للرئيس أن يُصدر إعلانا دستوريا جديدا يتم العمل به نظرا للظروف الراهنة، لأن تعديل الدستور الحالي صعب في ظل وجود مواد فوق دستورية، بدعوى التحصين، لذا فإن الأيسر إسقاط الدستور تماما.
ولا يرى أن هناك تفاعلات دولية تمنع تغيير الدستور المصري الذي هو شأن داخلي للشعب المصري. كما أن أوروبا مُنشغلة بمشاكلها الداخلية، والولايات المتحدة لديها مشكلات عديدة في ظل وجود الرئيس دونالد ترامب، ما يعني أن الظروف مواتية تماما لتصحيح مسار الدستور المصري. ويرد معارضون على منطق عودة، بأن الأجواء الدولية غير مهيأة للقاهرة لتعديل الدستور.
وتظل معركة تعديل أو عدم تعديل الدستور أحد الاختبارات المهمة التي يواجهها الرئيس السيسي، فرغم الهدوء الظاهر لدى قطاع كبير من المصريين، إلا أن عوامل الغضب لا تزال كامنة قد تنتظر من يفجّرها، ويخشى الكثيرون من أن تكون ورقة التعديل “القشة التي تقصم ظهر كبار المسؤولين”.