ميثاق مراكش للهجرة أمام تحديات شائكة
أصبح ميثاق مراكش العالمي للهجرة الآمنة والنظامية منذ تبنّيه موضع اختبار للسياسات الوطنية في إدارة ملف الهجرة، لكنه اختبار رمزي قد لا يتجاوز المعيار الأخلاقي حتى مع التصويت النهائي المتوقع لصالحه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 19 من الشهر الجاري.
بينما كان يجري الترحيب بالتوافق بين الغالبية من المجتمع الدولي حول ميثاق الهجرة العالمي، كانت عمليات الترحيل القسرية للمهاجرين تنشط بعيدا عن الرقابة الدولية، تحديدا على الحدود اليونانية التركية، حيث يجري إبعاد طالبي اللجوء نحو تركيا بجانب سوء المعاملة.
بحسب المنظمات الحقوقية ليس ثمة ما يثبت تورط السلطات الرسمية هناك في الترحيل بشكل مباشر، لكن سياسة إطلاق اليد للميليشيات التي يشتبه في إدارتها لتلك العملية تدفع إلى الكثير من المخاوف والشكوك حول الاتجاه المحتمل للحكومة اليونانية وحكومات أخرى، إلى تكليف مرتزقة للقيام بتلك المهمات القذرة مستقبلا.
تستند هذه المخاوف في سياقها الحالي إلى الوضع الذي يحيط بأوروبا في ظل الاضطرابات الاجتماعية التي تجتاح فرنسا وتهدد باقي دول الاتحاد في أي لحظة، بجانب حالة التشتت في ملفات تخص حماية المناخ والبيئة ومكافحة الهجرة غير الشرعية ومغادرة بريطانيا للاتحاد وكيفية التعاطي مع السياسات الحمائية الأميركية الجديدة.
يمكن القول إنه من سوء حظ الميثاق العالمي أنه جرى تبنيه في ظرف عالمي مضطرب، بدءا من ترنّح التحالف الحاكم في ألمانيا وانسحاب ميركل من رئاسة الحزب المسيحي واحتجاجات “السترات الصفراء” ومواقف ترامب الهجومية من اتفاق المناخ، رغم أن مدير منظمة الهجرة الدولية أنطونيو فيتورينيو أبدى ترحيبا كبيرا بتبني الميثاق، حيث اعتبره خطوة أولى بالغة الأهمية نحو تخفيف القيود السياسية المتشددة حول الهجرة.
يحدد الميثاق، بحسب منظمة الهجرة، مجموعة من المبادئ والالتزامات والتوافقات بين الدول الأعضاء. تشمل هذه الاعتبارات حقوق الإنسان، والمسائل الاقتصادية والاجتماعية والتنموية وتغيّر المناخ وإدارة الحدود والمسائل الأمنية التي تؤثر على المهاجرين وبلدان منشئهم وعبورهم، فضلا عن المجتمعات التي تستضيفهم.
لكن على الرغم من أن الميثاق حظي بموافقة 164 دولة أغلبها دول مصدرة للمهاجرين، من أصل 193 عضوا في الأمم المتحدة، فإنه لا يمكن التنبؤ بمستقبل أفضل حالا للهجرة، ليس بسبب التملص الشائع لحكومات المجتمع الدولي من التزاماتها من المواثيق غير الملزمة وحتى القانون الدولي، ولكن أيضا بسبب التغيّرات السياسية التي تحيط بالميثاق.
داخل الاتحاد الأوروبي الذي يضجّ بالخلافات حول الهجرة هناك عشر دول إلى جانب سويسرا لا تعتبر نفسها معنية بالميثاق، وهذه الدول لم يعد متاحا ترويضها من قبل المحور الفرنسي الألماني الذي فقد ثقله كقاطرة فعلية للاتحاد الأوروبي قادرة على ضمان الاستقرار والصمود في وجه الأزمات الكبرى، في ظل انتشار مستمر للتيارات اليمينية وصعودها إلى الحكم.
وفي حال فشل هذا المحور مثلا في الخروج بتوافق أوروبي شامل وطويل المدى حول ملف المناخ الذي جرى النقاش بشأنه في قمة بولندا، فإن هذا يعني أيضا فشلا مسبقا بشأن إدارة ملف المهاجرين المناخيين الذين يمثلون العدد الأكثر من بين نحو 260 مليون مهاجر في العالم.
وأمام الاتحاد الأوروبي نزاعات أخرى يتعيّن عليه حلها قبل الالتفات إلى ما تم التوافق بشأنه في الميثاق، أولها مشكلة ما يعرف بـ”نزاع دبلن” الذي يعمل على فرض قواعد على طالبي اللجوء لتسجيل طلباتهم في الدول الأعضاء بالاتحاد التي يصلون إليها أولا، والخلافات حول معايير الجهات الآمنة التي تصطدم بشروط طلب اللجوء مثل دول شمال أفريقيا وأفغانستان والعراق.
كما ثمة أزمة أخرى ترتبط بموقف إيطاليا الداعي إلى استقبال المزيد من المهاجرين الوافدين عبر سواحلها من قبل باقي دول الاتحاد من أجل تقاسم الأعباء، وهو موقف أصبح مشروطا بالتمديد لعملية “صوفيا” التي أطلقها الاتحاد في البحر المتوسط لمكافحة عصابات تهريب البشر لمدة ثلاثة أشهر إضافية.
وليست مشاكل أوروبا وحدها قد تضعف الميثاق العالمي على المدى المتوسط والطويل، فالانسحاب المسبق للولايات المتحدة من مشاورات الميثاق أعطى انطباعا بحالة من الخذلان والصد لدولة عظمى تعد أبرز مستقطب لمئات الآلاف من المهاجرين في منطقة الأميركيتين.
الاستنتاج القائم الآن أن نسبة هامة من المهاجرين في العالم قد لا يكونون في دائرة الضوء بسبب سياسات إدارة ترامب اليمينية. وإذا تمت إضافة موقف الرئيس اليميني المقبل في البرازيل جايير بولسونارو، الذي تعهد بالانسحاب من الميثاق الأممي فور استلامه لمنصب في يناير المقبل، فإن مستقبل الهجرة في جزء كبير من الأرض قد يتجه بشكل أسرع إلى نفق مظلم، في مفارقة مع عالم بات يعتمد بشكل مطرد اليوم على الترابط الاقتصادي وحرية التجارة وانسياب السلع لكنه يفرض المزيد من القيود على حرية تنقّل الأشخاص.