أي دور لكلينتون وبوش وأوباما في انهيار النظام العالمي
تشير الدلائل إلى أن هناك مواجهة جيوسياسية غاضبة بين روسيا والولايات المتحدة من الممكن أن تتحول إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين الدولتين، ضمن سياق عالمي متغير قد يؤدي إلى فقدان الولايات المتحدة لريادتها العالمية، وسبب ذلك لا فقط سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بل سياسات أسلافه، التي مهدت الطريق لترامب.
وبينما ترى جيل دوجيرتي، الخبيرة في شؤون روسيا، أن استراتيجية الولايات المتحدة الحالية تجاه روسيا لا تحقق نجاحا، بل على العكس فإنها تؤدى إلى زيادة قوة روسيا في الخارج، يذهب ستيفن م. ولت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، إلى اعتبار أن بذور متاعب الولايات المتحدة الحالية زرعت قبل فترة طويلة من دخول ترامب الساحة السياسية، حيث كانت نتيجة لقرارات السياسة الخارجية التي اتخذتها إدارات الرؤساء السابقين: بيل كلينتون وجورج دبليو بوش الابن وباراك أوباما.
وتشير دوجيرتي، في بحث نشرته مجلة ذا ناشونال انتريست، إلى أن هناك تراجعا في توفر الآليات الدبلوماسية التي ساعدت في الحيلولة دون حدوث أي صراع مسلح أثناء فترة الحرب الباردة، كما أن هناك احتمالا بأن تنهار النظم الخاصة بالحد من سباق التسلح وكذلك إمكانية التحقق من ذلك.
وشددت على أن روسيا هي الدولة الوحيدة التي تمتلك القدرة على تدمير الولايات المتحدة بالأسلحة النووية. كما أن لروسيا أساليب تمكنها من إحداث اضطراب في أميركا، فقد استطاعت روسيا استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في عام 2016 لتقويض الديمقراطية الأميركية من خلال حملات التضليل.
وكانت هذه الانتخابات هي النقطة المفصلية، التي غيرت الكثير من السياقات الدولية، لكن وبينما تركز أغلب القراءات على سياسات ترامب، يعود ستيفن م. ولت، إلى الوراء محملا الرؤساء الأميركيين المسؤولية، ومشيرا في تقرير له، أنه يبدو “حالما” في تمنيه لو لم تكن السياسة الأميركية بشكلها الذي عرفه العالم منذ تدخلها في أفغانستان إلى حرب العراق والحرب ضد الإرهاب.
ويقول ولت “لا شك في أن ترامب لا يستثمر إلا القليل في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون أو غيرها من القيم الليبرالية الكلاسيكية، ويبدو أنه يتجاهل شركاء الولايات المتحدة الديمقراطيين ويحبذ الحكام المستبدين. لكن، من الخطأ اعتباره السبب الوحيد، أو الأهم، في المتاعب التي تهز النظام الذي تقوده الولايات المتحدة”.
ويرى ولت أنه مع بداية “اللحظة الأحادية القطب”، ومع رفض الانعزالية، كان بإمكان واشنطن أن تنفصل تدريجيا عن تلك المناطق، وأن تقلل بصمتها العسكرية، بينما تظل على استعداد للعمل في عدد قليل من المجالات الرئيسية إذا لزم الأمر ذلك.
كانت هذه التحركات ستجبر حلفاء واشنطن الأكثر ثراء على تحمل المزيد من المسؤولية عن المشاكل الداخلية بينما تعالج الولايات المتحدة الاحتياجات المحلية الملحة. لكن، لم يناقش هذا البديل في الدوائر الرسمية كما يلزم. وبدلا من ذلك، توحد كل من الديمقراطيين والجمهوريين وراء استراتيجية طموحة من “الهيمنة الليبرالية”، التي سعت إلى نشر القيم الليبرالية على نطاق واسع.
وشرعا في استخدام القوة الأميركية للإطاحة بالديكتاتوريين، ونشر الديمقراطية، وجلب أكبر عدد ممكن من الدول إلى المؤسسات الأمنية بقيادة الولايات المتحدة، لاقتناعهما بأن رياح التقدم كانت في صالحهما لإثراء صورة أميركا باعتبارها “أمة لا غنى عنها” ومع حلول 2016، أصبحت أميركا ملتزمة بالدفاع عن المزيد من الدول أكثر من أي وقت في تاريخ الأمة. ربما كان قادة الولايات المتحدة يتمتعون بنوايا حسنة، لكن الاستراتيجية التي اتبعوها كانت فاشلة. أصبحت العلاقات مع روسيا والصين، اليوم، أسوأ مما كانت عليه في أي وقت منذ الحرب الباردة.
وقامت كوريا الشمالية والهند وباكستان باختبار الأسلحة النووية وتوسيع مخزوناتها النووية، في حين أن إيران انتقلت من القدرة على تخصيب اليورانيوم في عام 1993 لتصبح دولة أسلحة نووية اليوم. إن الديمقراطية تتراجع في جميع أنحاء العالم، وينشط المتطرفون في أماكن أكثر، ويتصارع الاتحاد الأوروبي. كما أدت منافع العولمة غير المتساوية إلى ردة فعل قوية ضد النظام الاقتصادي الليبرالي الذي روجت له الولايات المتحدة.
كانت كل هذه التوجهات جارية قبل فترة طويلة من تولي ترامب الرئاسة. لكن الكثير منها كان من المحتمل أن يكون أقل بروزا لو اختارت الولايات المتحدة مسارا مختلفا. ويقدم ولت هنا مجموعة افتراضات عن سياسات أميركية من الصعب أن تتحقق.
رأى أنه كان يمكن للولايات المتحدة أن تقاوم صفارات الإنذار الخاصة بتوسيع حلف الناتو وتمسكها بـ”الشراكة من أجل السلام” الأصلية، وهي مجموعة من الترتيبات الأمنية التي شملت روسيا. وبمرور الوقت، كان من الممكن أن يتسبب ذلك في تقليص تواجدها العسكري تدريجيا وتحويل الأمن الأوروبي مرة أخرى إلى الأوروبيين. ولو اتخذوا ذلك المسار لما شعر قادة روسيا بالتهديد، وما كانوا ليقاتلوا جورجيا أو يسيطروا على شبه جزيرة القرم، ولما كان لديهم سبب يذكر للتدخل في الانتخابات الأميركية في سنة 2016.
لو كانت واشنطن قد قدمت دعمها لإسرائيل والسلطة الفلسطينية بشكل مشروط على الجانبين بتحقيق تقدم نحو هدف “الدولتين”، لما كان المصدران الرئيسيان للكراهية القاتلة لأسامة بن لادن تجاه أميركا موجودين. ومع عدم وقوع أحداث 11 شتنبر، لما غزت الولايات المتحدة العراق أو أفغانستان، . كما أن تنظيم الدولة الإسلامية لم يكن ليظهر أبدا، وأزمة اللاجئين والهجمات الإرهابية كانت ستكون أقل مما هي اليوم.
كان يمكن للولايات المتحدة أن تتحرك بسرعة أكبر لمواجهة طموحات الصين المتنامية عوض التركيز على الحروب في الشرق الأوسط. وكان من الممكن توفير المزيد من الموارد لإنجاز هذه المهمة الأساسية. وكان يمكن أيضا أن تجعل انضمام بكين إلى منظمة التجارة العالمية متوقفة على تخليها عن ممارساتها التجارية المفترسة وإنشاء مؤسسات قانونية أكثر فاعلية، بما في ذلك الحماية للملكية الفكرية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن المزيد من الاهتمام بكيفية توزيع فوائد العولمة من شأنه أن يقلل من عدم المساواة في الولايات المتحدة اليوم. وكما تقول روزيلا زيلينسكي، في مقال نشر في مجلة فورين أفيرز، فإن تمويل الحروب الخارجية عن طريق اقتراض الأموال (بدلا من زيادة الضرائب) يتيح مسارا سهلا لأغنى الأميركيين، يسمح لهم بربح الفائدة للحكومة الاتحادية، مما يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاقتصادية القائمة. وبهذه الطريقة، ساعدت استراتيجية كبرى مفرطة الطموح في جعل التفاوت الاقتصادي أسوأ، والعالم الليبرالي القوي من الخارج هشا من الداخل.
وتلتقي قراءة ولت مع رؤية دوجيرتي، بضرورة تقييم الاستراتيجية الأميركية وإلى أن تكون الاستراتيجية أكثر مرونة، من أجل توفير القدرة على التصدي للأخطار والتحديات.