بذرة التغيير تمد جذورها في أوروبا
تشير توقعات الخبراء بولادة نظم سياسية واجتماعية جديدة لم تتشكل أطوارها النهائية بعد، إلى تناطح النظم الليبرالية الحاكمة في أوروبا، لا سيما مع ما تعيشه القارة العجوز من تمزق وغضب عام. ويرى مراقبون أن ما يحدث في بلدان أوروبية من صعود للشعبوية واحتجاج على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قد يكون بذرة لتغيير شامل في النظام السياسي العالمي.
مثّل تحطيم المحتجّين لجزء من تمثال ماريان، رمز الجمهورية الفرنسية، داخل قوس النصر في باريس، لحظة حاسمة خلال موجة الاحتجاجات التي هزت فرنسا. وقد قالت ليديا جيروس، المتحدثة باسم الجمهوريين، عن الحادثة، “تشوه وجه ماريان في قوس النصر. الجمهورية تتأرجح”.
ألقت هذه الاحتجاجات ببذرة التغيير في أرض أوروبية بات واضحا أنها تنتظرها، وأنها ستمدّ فروعها إلى كامل القارة وحتى خارجها، ضمن مخاض يعيشه العالم بأسره.
في ذروة الاحتجاجات، وجد الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون، الذي وعد خلال حملته الانتخابية بـ“نهضة أوروبية” وبفرنسا قوية وأوروبا أقوى، نفسه أمام بلد يتحول بسرعة إلى “رجل أوروبا المريض”، وينقل العدوى إلى بقية بلدان القارة، في وقت تشهد فيه تغييرات مصيرية.
عشية احتجاجات السترات الصفراء، التي انتقلت من فرنسا إلى بلجيكا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى، استقبل ماكرون قادة أوبوا والعالم لإحياء ذكرى مئوية الحرب العالمية الأولى، التي سطّرت بداية النهاية لنظام ساد العالم لفترة طويلة، وتسببت في التمهيد لتغييرات سياسية كبيرة تضمنت ثورات التحرير والاستقلال، وانتهت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد عشرين سنة.
خلال فترة الحربين، بدأت أوروبا تتغير، ولم تعد سيدة العالم، ودولها لم تعد إمبراطوريات ممتدة في مشارق الأرض ومغاربها، ولتصبح بنهاية الحرب البادرة حليفة للولايات المتحدة الأميركية وطرفا ثانيا في النظام العالمي أحادي القطب.
وعلى امتداد تلك السنوات، كانت أوروبا تتغير من الداخل في صمت، لكن الظاهر للرأي العام الأوروبي والعالمي هو صورة مجموعة الدول المتحدة في تكتل هو الأنجح في العالم. انشغلت أوروبا بمشكلات العالم، وتدخلت، باعتبارها مهد حقوق الإنسان ومنها انبثقت الديمقراطية، في شؤون مجتمعات ودول. وأغفلت اختلال ميزان العدالة الاجتماعية الذي كان يكبر في الداخل، ولم تنتبه إلى أن الديمقراطية التي تسعى إلى الترويج إليها تحولت إلى ديمقراطية متوحشة ودكتاتورية انتهت بوضع العالم أمام خطر فوضى سياسية، في واحدة من أكثر مراحله حساسية مع صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الحكم، حتى أن البعض من الخبراء يستحضرون لتوصيف وضع العالم نظرية فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، مشيرين إلى أن ما يجري اليوم هو فعلا نهاية مرحلة تاريخية وبداية مرحلة جديدة.
أوروبا مهد الثورات
عندما بشر ترامب بنظام ليبرالي عالمي جديد، لم يثر الكثير من الاهتمام وانكبت مؤسسات الحكم التقليدية في العالم، ومنها الحكومة الفرنسية على التقليل من أهمية هذا التوجه، لكن عندما انفجر الغضب الفرنسي توقف الجميع أمامه، ففرنسا معه واحدة من أبرز الثورات التي قلبت العالم في العصر الحديث.
وسنة 1789، تفجرت الثورة الفرنسية، التي جاءت بمفاهيم جديدة أثرت في المبادئ والنظم السياسية والاقتصادية وأجرت تحولات سياسية واجتماعية كبرى في التاريخ السياسي والثقافي لفرنسا وأوروبا بوجه عام. وانتهت الثورة (1799-1789) إلى إلغاء الملكية المطلقة والامتيازات الإقطاعية للطبقة الأرستقراطية ونفوذ الكنيسة.
وظلت أوروبا على مدار القرون الماضية رمانة ميزان للاستقرار السياسي العالمي ومناهج تفسيره واستنباطه ليتشكل ويتبلور حسب مقتضيات كل عصر وكل حاكم وتحت ظروف التطور والتغيير. فكان الانقلاب الأوروبي على حكم الكنيسة نهاية القرن السابع عشر وصعود الراهب البروتستانتي مارتن لوثر بخططه الإصلاحية الدينية إذعانا للعالم بتغير نظم حكم الدين على القيادات السياسية، ومع نضوج الأفكار القومية جاءت ثقافة عصر التنوير وهي الحوكمة الجديدة، إلى أن نبتت بذور جديدة دفعت إلى تغيير آخر أنتج ثمار الديمقراطية الحالية عاصفة بسابقيها من نظم سياسية متفاوتة، تفرض واقعا عالميا شعاره الحكم للشعب.
ومثل ما تعيشه أوروبا الآن من وقائع سياسية متتابعة، هزات عنيفة فرضت استخلاص دلالات حول ما يمكن أن يؤول إليه العالم من تحولات سياسية تواكب ما يحدث من تغير غير محكم. وطرحت السؤال الأهم، هل يمكن أن يخلق ذلك الزخم من تطور وتغير واحتجاج رافض للواقع الحالي، بذرة أخرى تنبت نظاما يتماشى مع ما يحتاجه العصر الجديد؟
يجيب على هذا التساؤل مصطفى رجب أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، قائلا إن القارة الأوروبية أصبحت تعيش موجات معقدة من النزاع والتغير، وتشي تلك المعاني الجديدة بمخاطر تهدد استقرار النظام العام في العالم.
ويضيف رجب، أن الاتحاد الأوروبي أضحى منقسما بين بلدان تتمسك حكوماتها بالتوجهات الليبرالية في قضايا الهجرة واللجوء وبلدان أخرى تدير شؤونها حكومات متطرفة فقدت الثقة في سياسات الاتحاد الأوروبي. ويرى أن كل أزمات أوروبا تنبثق من غياب الكيان الاجتماعي المتوازن، الذي خلق موجات من عدم الاستقرار والميل نحو النزعات المتشددة ضد المهاجرين الذين يرونهم غرباء يتقاسمون معهم ثروات بلادهم ووظائفهم وأعمالهم.
ويتفق مراقبون على أن هناك صراعا طبقيا واجتماعيا عجزت المؤسسات الأوروبية عن إدارته والتخفيف من احتقاناته وزادت بتبنيها سياسات رأسمالية متوحشة، فنتجت عنه العديد من التداعيات، بداية من ظهور مؤشرات سلبية لمستوى الأداء العام وعدم رضا شعبي بالمستوى المعيشي، ثم انتقل بعدها نحو المزيد من الراديكالية. وظهر الصراع المتأزم بين الانتماء للهوية الأوروبية الممثلة في البقاء بالاتحاد الأوروبي، والعودة للهوية القومية المحلية. وباتت الأزمة تتلخص في البحث عن تلك الهوية المفقودة.
حكم رجال الأعمال
تشعر المجموعات الاجتماعية الغاضبة، في فرنسا وغيرها (وحتى في الدول العربية التي شهدت ثورات)، بتحريض لمواجهة بعضها البعض: العاطلون عن العمل ضد الموظفين، الريف ضد المدينة، وغير المتعلمين ضد أصحاب الشهائد، مسلمين وغير مسلمين، ومهاجرين وسكان أصليين. وتوجد مثل هذه الانقسامات في العديد من البلدان، إلا أنها تأخذ بعدا وجوديا في فرنسا بسبب رمز المساواة الذي ارتبط تاريخيا بالجمهورية الفرنسية ومبادئها التي انتشرت في العالم.
وأكدت نورهان الشيخ الخبيرة في العلاقات الدولية، أن الغضب الكامن في الاحتجاجات الشعبية مرهون بالأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي صنعتها النظم الليبرالية المتوحشة وجعلت الحكم في يد طبقة صغيرة من رجال الأعمال تخدمهم الحكومات والتشريعات المنبثقة منها.
وأوضحت، أن “السياسيين يظنون أن خدمتهم المباشرة والتسهيلات التي يقدمونها للطبقات الغنية تعزز من بقائهم في الحكم وتوفر لهم الاستمرار لممد أخرى، وجاءت الحركات الشعبية وصعود اليمين المتطرف كرسائل غير مباشرة من الطبقات المتوسطة تعبر عن استيائها من الوضع الحالي وتطالب بتغيير النظام السياسي الحالي”.
وأشارت الشيخ إلى أن هناك صحوة شاملة ضد النظام الحاكم المحابي للأغنياء، وبدأت تنتقل من أوروبا إلى بلدان أخرى شرقا وغربا، وفي حالة استمرار الوضع الحالي دون تغيير حقيقي وشامل في نظام الاقتصاد الليبرالي من أجل تحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية، ستكون العواقب أكثر وربما تمثل انقلابا شاملا على النظام العالمي وينتج عنه شكل جديد مازالت لم تتكون أطواره النهائية.
ويعزز ما يدور في أذهان العامة من شعور بالظلم وغياب العدالة ميل البعض نحو أقصى اليمين أو ما يعرف بالديمقراطية الراديكالية، وهي القائمة على تبني القرارات والحركات الأكثر تطرفا من الناحية السياسية، والتي يقابلها نمو مطّرد في نزعات قومية شعبوية، يطلق عليها خبراء علم الاجتماع وصف النزعة “القبلية”، في إشارة إلى الرغبة في “الانغلاق” التي عكستها دعوات طرد المهاجرين والرغبة في الانفصال عن الكيانات الكبرى والدعوات للعودة إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى.
وبمراجعة تواريخ قريبة، يتضح أن ما يحدث في فرنسا من احتجاجات، وما يعيشه العالم من مدّ شعبوي قومي لم يكن وليد اللحظة، لكنه انفجار لغضب كامن، انفجر في مناسبات سابقة، إلا أنه لم يصل مرحلته القوصى مثلما هو الحال اليوم، من ذلك مظاهرات “وال ستريت” بالولايات المتحدة عام 2011 التي طالبت بالمزيد من المساواة بين الفقراء والأغنياء وفرض ضرائب أكثر على رجال الأعمال وتخفيف الأعباء عن الطبقات المتوسطة، والتي رفعت خلالها أيضا شعارات معادية للعولمة والرأسمالية المتوحشة.
وكان هذا الوضع امتدادا للأزمة المالية العالمية في سنة 2008، والتي اعتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929، الذي ساهم في اندلاع الحرب العالمية الثانية. ولا ينفصل احتجاج أصحاب السترات الصفراء عن التوجه العام لتلك الاحتاجاجات السابقة، خاصة وأن الخبراء يعتبرون أن ما تعيشه أوروبا اليوم هو نتاج أزمة 2008.
وتشير صحيفة فاينانشيل تايمز إلى أن احتجاج حركة السترات الصفراء تضخم وأصبح ثورة ضد ما يعد نظام ضرائب مُرهقا وغير عادل وخدمات غير كافية، علاوة على إهمال المناطق الريفية وشبه الريفية، في ظل رئيس ونخبة سياسية يُعتبران بعيدين كل البُعد عن الناس العاديين، وفي مجتمع يشهد تعبئة كبرى من موجات قومية صاعدة.
يسعى اليمين المتطرف إلى الاستيلاء السياسي على أوروبا من خلال الانتخابات البرلمانية الأوروبية في مايو المقبل، ويجد في الظروف الراهنة فرصة مناسبة، وهذا إن حصل فإنه يعني، وفق الخبراء، ولادة نظم سياسية أوروبية تناطح مكتسبات الديمقراطية، بشكلها الأوروبي “الناعم” وفتح الباب أمام نظام عالمي سيكون أكثر “توحشا” من النظام الرأسمالي الراهن.
يغرق ماكرون، الذي احتفى مؤيدو الليبرالية المتمدنة بفوزه انتصارا لمنهجهم السياسي المهدد من قبل القوميات الصاعدة، في أزمات اقتصادية واجتماعية داخلية لا يمكن احتواؤها حتى اللحظة. ولا يمكن فصل إعلان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رحيلها بعد انقضاء مدتها عام 2021 بالإضافة إلى رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، عن دلالات فشل الحكومات الحالية في احتواء صعود النزعات الجديدة غير المتوقعة ولا المسبوقة، فكانت سببا في الإطاحة بقيادات قوية وكبيرة.
ويعد استقرار النظام العالمي أمرا نادرا. وعندما يظهر أحد هذه الأنظمة، فإنه يأتي بعد حدوث اضطراب كبير يخلق كلا من الظروف والرغبة في رؤية شيء جديد. فهذا النظام يتطلب توزيعا مستقرا للسلطة وقبولا واسعا للقواعد التي تحكم سلوك العلاقات الدولية. كما يحتاج أيضا إلى مهارة في القيادة عندما تتغير الظروف وتأتي التحديات.
وقبل بضع سنوات، شهدت إيطاليا فترة من الاحتجاجات التي ساهمت في تنمية حركة الخمس نجوم الشعبية. واليوم، إيطاليا في قبضة اليمين المتطرف، بعد انتخابات ديمقراطية عبّر فيها الإيطاليون عن رغبتهم في سيناريو قد يتكرر في فرنسا وغيرها، وقد يصل إلى قلب البرلمان الأوروبي في حال لم ترمم فرنسا “وجه ماريان” وتعيد لثورتها ألقها وعدالتها.