تنازلات ماكرون تقسم الفرنسيين

لم ينته جدل الاحتجاجات والانقسام في فرنسا حتى بعدما أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن حزمة إجراءات وعد باتخاذها لتهدئة الوضع وإخماد موجة احتجاجات السترات الصفراء التي اجتاحت البلاد منذ أكثر من شهر، فبين مرحّب وبين مندّد انقسمت مواقف الرأي العام الفرنسي حول خطاب ماكرون الذي بدا فيه هذه المرة متواضعا وأقل حدة من الخطاب الذي ألقاه في بوينس آيرس الأرجنتينية، خلال مشاركته في قمة العشرين والتي توعّد فيها بملاحقة المخربين الفوضويين وفق قوله

انقسم الفرنسيون حول تقييم الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، مساء الاثنين، والذي أعلن فيه مجموعة من الإجراءات الفورية والأخرى الآجلة التي تطال البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلاد. ففيما قدر عدد من شاهد خطاب ماكرون بحوالي 23 مليونا، كشفت استطلاعات الرأي أن 50 بالمئة من الفرنسيين وجدوا خطاب ماكرون مقنعاً، فيما اعتبر 49 بالمئة أنه غير مقنع وأن إجراءات الرئيس الفرنسي غير كافية.

وجاء خطاب ماكرون بعد فترة صمت انتهجها منذ عودته من قمة العشرين في بوينس آيريس، على نحو أثار أسئلة حول الاستراتيجية التي يعتمدها الرئيس الفرنسي من خلال هذا الصمت مقابل حيوية أظهرها وزراء حكومته، لا سيما رئيسها إدوار فيليب، الذي توقعت بعض التحليلات أن يتخلّى ماكرون عنه ويقدّمه أضحية لتهدئة تحركات أصحاب “السترات الصفراء” الذين بدأوا تحركهم قبل أكثر من 4 أسابيع.

ولفت مراقبون إلى أن الرئيس الفرنسي قدم خطابا اعتذاريا، وأن كلمات الخطاب اختيرت بعناية لتحاكي حساسيات كافة المكوّنات الاجتماعية والاقتصادية الفرنسية.

ولفت هؤلاء إلى أن ماكرون اعترف بشكل مباشر بأنه يتحمّل قسطا من الأزمة وأن بعض تصريحاته قد جرح قسما من الفرنسيين. إلا أنهم رأوا في الخطاب سعياً جديا من قبل الرئيس الفرنسي لتقديم نفسه بصورة جديدة للفرنسيين.

ولفتت بعض الأوساط السياسية الفرنسية إلى أن خطاب ماكرون يعدّ انقلابا حقيقيا على أدائه السابق، وأن الرجل يتخلّى عمّا الصق به من تهم تعتبره رئيس الأغنياء، وأن ما أعلنه من إجراءات يعتبر تراجعاً حقيقيا عن ليبرالية مفرطة انتهجتها حكومته.

وذهب بعض المحللين إلى استنتاج نزوع ماكرون نحو اليسار وأن ما اتخذه من قرارات، من خلال رفع الحد الأدنى للأجور وإلغاء بعض الضرائب والوعد بإلغاء ضرائب أخرى لاحقا والتعهد بعدالة في توزيع الثروة تلغي الامتيازات التي يتمتع بها أصحاب الثروات، لا يمكن إلا أن تصب داخل منحى يساري يبتعد عن الليبرالية التي لطالما دافع عنها.

وقالت مصادر اقتصادية مراقبة إن إجراءات الرئيس الفرنسي ستبلغ تكلفتها 10 مليارات يورو يضاف إليها 4 مليارات أخرى هي حجم كلفة تخلي حكومة إدوار فيليب عن الضرائب التي فرضت على قطاع المحروقات والتي تسببت مباشرة في انفجار ظاهرة “السترات الصفراء”.

وأضافت هذه المصادر أنه لا يمكن اعتبار أن ما قدمه ماكرون وحكومته شكليا ذلك أن صبّ 14 مليار يورو ليس مبلغاً يسيراً، وأن تحولات ماكرون جذرية وحقيقية ويفترض أن تكون لها تداعيات مباشرة على كافة القطاعات الاقتصادية.

50 بالمئة من الفرنسيين وجدوا خطاب الرئيس ماكرون مقنعا

وشدد مراقبون على أن ماكرون تلقّى صفعة قوية من قبل الفرنسيين الذي أيدوا تحرك “السترات الصفراء” بنسبة 75 بالمئة. وقال هؤلاء إن فرنسا تحتاج إلى إصلاحات بنيوية طال انتظارها، وإن الناخب الفرنسي اختار ماكرون رئيسا مطيحا بمرشحي اليسار واليمين معوّلا على وعود أطلقها في حملته الانتخابية.

إلا أن غضب الشارع الفرنسي عبّر عن رفض لأن تدفع الطبقة الوسطى والفقيرة فاتورة الإصلاحات التي يدفع بها ماكرون، فيما رمزية إلغاء الضريبة على الثروات الكبرى تعكس نهجاً استفزازيا فهم حماية للأغنياء على حساب الطبقات المحدودة الدخل.

ويعتبر رد فعل “السترات الصفراء” المتحفظ المنقسم والرافض لخطاب ماكرون منطقيا. ويرى الباحثون في العلوم الاجتماعية أن أي تنفيس للغضب الجماعي يحتاج إلى عوامل عدة قد لا تظهر نتائجها بشكل فوري.

ويلفت هؤلاء إلى أن النجاح المذهل لحركة “السترات الصفراء” أغرى أصحابه بالذهاب بعيدا في مطالبهم. ففيما يذهب البعض إلى المطالبة باستقالة ماكرون، وهو أمر لم يحصل في تاريخ الجمهورية الخامسة، يعتبر آخرون أن إجراءات ماكرون ليست في مستوى الحدث، لا سيما زيادة الحد الأدنى للأجور بمبلغ 100 يورو، وبالتالي فإنهم يطالبون بالمزيد من الإجراءات المقنعة لإخراج المحتجين من الشوارع. وفيما قالت الأنباء أن أصحاب “السترات الصفراء” رفضوا خطاب ماكرون ودعوا إلى تحرك آخر السبت المقبل، يتساءل المراقبون عن هوية من رفض ودعا طالما أن ليس لهؤلاء شكل تمثيلي شرعي حقيقي بإمكانه ادعاء التحدث باسم هذا الحراك.

ولفت هؤلاء إلى أن مجموعة أطلقت على نفسها اسم “أحرار السترات الصفراء” قد أعلنت انشقاقها وتسعى للتفاوض مع الحكومة، قد تلقت تهديدات بالقتل، على نحو يؤشر إلى تصدع داخلي قد يضعف شرعية التحركات، كما سيضعف من التأييد الذي حظي بها هذا الحراك من قبل الرأي العام الفرنسي.

ويعتبر المحللون أن موقف الزعيم اليساري جان لوك ميلونشون كما موقف زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان في رفض خطاب ماكرون وانتقاد الرئيس الفرنسي هو موقف انتهازي يهدف إلى ركب موجة التحرك الشعبي الذي أتى من خارج أي إطار حزبي أو نقابي من أجل تصفية الحسابات مع ماكرون، والدفع إلى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة قد تحسّن من حصصهم التي قلّصتها الانتخابات الأخيرة لصالح حزب ماكرون، “الجمهورية إلى الأمام”.

ودعا مراقبون إلى تأمّل مجريات الأيام المقبلة لاستنتاج قدرة أو عجز الرئيس الفرنسي على إخراج البلاد من أزمتها الحالية. ورأى هؤلاء أن دعوة ماكرون إلى الحوار مع رؤساء البلديات وكبرى النقابات ومدراء الشركات الكبرى ينقل الأزمة نحو بعد وطني أشمل يتجاوز ثنائية الشارع والحكومة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: