خلافات المغرب والجزائر: هل تحل فقط وراء البحار؟
عندما تجتمع الوفود المغربية والصحراوية والجزائرية والموريتانية، كما هو مفترض اليوم الاربعاء، تحت سقف قاعة واحدة في جنيف، تلبية للدعوة التي وجهها لهم مبعوث الامين العام للامم المتحدة هورست كولر في غشت الماضي، لحضور «مائدة مستديرة أولية من أجل تبادل وجهات النظر حول آخر تطورات القضية (الصحراوية) والمسار السياسي الذي يجري تحت الرعاية الحصرية للأمم المتحدة، وبحث الأبعاد الإقليمية للنزاع»، فان احتمالات حدوث مفاجأة مدوية يخرج بعدها الحاضرون في نهاية اليومين اللذين سيستغرقهما الجلوس إلى تلك الطاولة بـ»حل سياسي وواقعي ودائم وعلى أساس التوافق» للمعضلة المطروحة عليهم، وفقا لما نص عليه قرار مجلس الأمن الدولي الاخير ستكون ضئيلة جدا، بل ربما منعدمة تماما.
والسبب كما يعلمه الجميع، وفي مقدمتهم صاحب الدعوة نفسه، هو أن وجهات نظر المعنيين حول تلك المسألة الشائكة بالذات تبدو على طرفي نقيض، بشكل لن يكون من السهل معه الوصول لتحصيل الحد الأدنى من التوافقات المطلوبة في وقت وجيز. ففيما تتمسك الرباط بالحل الوحيد الممكن الآن، وهو ان تمنح الصحراء حكما ذاتيا في إطار الوحدة الترابية للمملكة، لا ترى الجزائر بالمقابل بدا من منح الصحراويين حق تقرير مصيرهم، في استفتاء دولي حر ومباشر،لكن ذلك لا يعني أن تقريب وجهات النظر سيكون أشبه بالحرث في البحر، أو أن جمع الدولتين الجارتين المغاربيتين الكبيرتين، المغرب والجزائر، إلى طاولة مستديرة في هذا الظرف بالتحديد، حتى لو كان ذلك في جنيف، وليس في عاصمة مغاربية أو عربية قريبة، لن يكون بالامر المفيد لهما ولباقي جيرانهما بالمثل. فهو سيخفف ولو نسبيا من حالة التوتر الصامت بين بلدين يقفان منذ عقود فوق جبال من الخلافات التي تبدو حادة وعميقة حينا، وتلوح عابرة ومحدودة حينا آخر، ويواصلان مع ذلك رغم ادراكهما لما تلحقه بهما من أضرار فادحة، وما تسببه من شلل تام لأي مسعى للتقارب الحقيقي بينهما، وتعطيل لعجلة الاتحاد المغاربي المنشود في صنع مشهد سريالي لا يخلو من تناقضات مرة. فهما دولتان شقيقتان قريبتان، وعدوتان لدودتان في الوقت نفسه تتبادلان تمثيلا دبلوماسيا عاديا، وتعيشان مع ذلك حالة من البرود والقطيعة الصامتة، جعلتهما تقفان اكثر من مرة على شفا حرب طاحنة.
ولعل حفاظهما على شعرة معاوية وتجنبهما الانجرار وراء تلك الحرب هو الإنجاز الوحيد الذي استطاعا تحقيقه حتى الآن، ويمكن أن يحسب كنجاح باهر لهما. ولكن أليس بالامكان أن نأمل في اكثر وأبعد من ذلك؟ لقد رأينا مثلا وفي عز حالة البرود والجفاء بين العاصمتين، التي اعقبت تصريحات لوزير الخارجية الجزائري، أواخر العام الماضي، التي اتهم فيها المغرب بتبييض أموال الحشيش، مصافحة حارة بين الملك المغربي ورئيس وزراء الجزائر في قمة أوروبا وإفريقيا بساحل العاج، ما أنعش الآمال بذوبان وشيك للجليد وعودة قريبة للعلاقات الطبيعية بينهما، لكن كل شيء توقف فجأة بعدها لينقسم بعض الساسة والنخب الجزائرية إلى معسكرين، احدهما مؤيد لتلك الحركة التي بادر إليها المسؤول الجزائري نحو العاهل المغربي، تحت انظار الرئيس الفرنسي ماكرون، والآخر مستنكر لها على اعتبار انها تعكس نوعا من الضعف والرضوخ غير المقبول للجار المغرب على حد تقييمه، ولم ينظر إلى الجانب المقابل لتلك المصافحة، على انها فرصة بالإمكان أن يبنى عليها، وان تستثمر في تحريك المياه الراكدة بين الجارين قبل أن يتحول الامر إلى قوس قصير أغلق. وحتى عندما أخذ الجزائريون موقفا مبدئيا لصالح دعم ملف ترشح المغرب لتنظيم كأس العالم في كرة القدم، مقابل الملف الامريكي لم يتجاوز الامر الإعراب عن الشكر والإشادة والتقدير من جانب الرباط لذلك الموقف، بدون أن تتطور الامور لما هو أبعد من ذلك ويقع البناء على تلك الاشارة الرمزية لإعادة تصحيح العلاقات بين البلدين وإزالة ولو بعض مما علق بها من شوائب وتشوهات كثيرة.
ولعل تبادل الرسائل الودية بين الجانبين في معظم المناسبات الوطنية التي تخص البلدين هو العلامة الوحيدة التي بقيت تدل على أن الجسد الرسمي مازال ينبض بالرغبة في تسوية الخلافات وطي صفحتها، لكن بدون أن يشعر لا المغاربة ولا الجزائريون بأي أثر فعلي لذلك النبض على حياتهم. فلم تعد برقيات كتلك التي وجهها الرئيس الجزائري الصيف الماضي لنظيره المغربي بمناسبة ذكرى «ثورة الملك والشعب» وعبّر فيها عن «تجديد حرصه أي الرئيس الثابت على مواصلة العمل معه» أي العاهل المغربي على»توطيد أواصر الاخوة والتضامن وحسن الجوار»، أو تلك التي أرسلها الملك محمد السادس للرئيس بوتفليقة بمناسبة ذكرى اندلاع الثورة الجزائرية، وأكد فيها حرصه على «مواصلة العمل معه « من أجل الارتقاء بعلاقات التعاون بين المغرب والجزائر إلى مستوى الاواصر المتينة، التي تربط بين الشعبين الشقيقين» تعني الكثير في زمن مازالت فيه الحدود بين الدولتين مغلقة منذ اكثر من عقدين، وما زال فيه مجرد جلوس قادة البلدين تحت سقف قاعة واحدة للتباحث في كل القضايا العالقة بينهما، حلما وطموحا صعب المنال. ولاشك بأن تشعب الخلافات وتعمقها، ثم الرواسب التي تراكمت على مدى السنوات الاخيرة تجعل الأمل في تحقيق انفراج قريب في العلاقات المغربية الجزائرية ضعيفا، ولكن أليس المشكل بين الجانبين نفسيا قبل أن يكون سياسيا أو أمنيا؟ ألا يعاني المسؤولون المغاربة والجزائريون معا من ضعف فادح في منسوب ثقة احدهما بالاخر، ما يجعل حالة التوجس والخوف المتبادل من بعضهما بعضا تتغلب بالاخير على كل نوايا التقارب والصلح؟
من الواضح جدا أن مقدار الشك والارتياب الذي تقابل به أي خطوة أو بادرة ولو محدودة يقدم عليها أحدهما تجاه الاخر، يعكس والى حد كبير حقيقة ذلك المشكل المزمن، ويدل بوضوح على انهما بحاجة ملحة لنوع من التطمينات والضمانات القوية، قبل التفكير في أي اتفاق أو تسوية مقبلة قد تحصل بينهما.
فهل يعني ذلك انه لن يكون هناك مفر اذن من أن يحصل نوع من الضغط خارجي على الطرفين معا حتى يقبلا شكلا من اشكال التسوية؟ وإن لم يكن مصدر ذلك الضغط فرنسيا أو امريكيا بالاساس، فهل من الواقعي أو حتى من الممكن أن يكون عربيا ومغاربيا؟
لقد عرض وزير خارجية تونس قبل ايام على البلدين مقترحا برعاية اجتماع ثنائي مغلق في بلاده بعيد عن الاضواء. ولكن من باستطاعته أن يتصور انه سيكون بمقدور تونس وحدها، في حال ما اذا قبل الطرفان بمقترحها أن تحقق ما عجز عنه الفرنسيون والامريكان وغيرهم؟ ربما سيكون مجرد اقناع المغاربة والجزائريين بالاجتماع حول طاولة مستديرة اخرى لا وراء البحار، بل على ارض مغاربية هذه المرة انجازا تونسيا عظيما. يبقى هل سيكون ذلك مفتاحا لحل الخلافات العميقة؟ أم فقط لتبادل المصافحات؟ هذا ما لن يقدر على الجواب عنه إلا أصحاب الشأن انفسهم.