الربيع القادم ضد الرأسمالية المتوحشة
لطالما كانت قمة العشرين الموعد المثالي لإعلاء أصوات المعارضين للسياسات الرأسمالية والعولمة في الشوارع جنبا إلى جنب مع المدافعين عن قضايا البيئة وحقوق المهاجرين، لكن هذه المرة لم ينتظر مناهضو النادي الرأسمالي الضيق موعد القمة حتى يدلوا بدلوهم.
وليس ثمة مكان أنسب من المدن الفرنسية ذات التاريخ الطويل من النزاعات العمالية منذ القرن التاسع عشر، للتعبير عن المزاج العالمي الجديد الذي ازداد سخطا تجاه دولة الضرائب والرأسمالية المتوحشة، وهو مزاج مرشح للاتساع أكثر في دول أوروبية أخرى وربما ارج القارة، في مؤشّر قد يتحول إلى ربيع غربي ضد النظام الاقتصادي العالمي.
ولم تشذ شوارع الأرجنتين الغارقة في أزمة اقتصادية، عن القاعدة، تماما مثل شوارع القمم السابقة، في التعبير عن السخط المتزايد لسياسات الدول الغنية التي تحتكر لوحدها 85 بالمئة من الناتج الإجمالي المحلي وتمثل ثلثي سكان العالم.
يمكن الملاحظة بسهولة كيف أن أزمة الأجور الضعيفة وظاهرة الإفقار ما فتئت تجتاح أرجاء العالم في مقابل اتساع الفجوة الاجتماعية مع النخب الرأسمالية الضيقة، إما بسبب سياسات التقشف الحكومية وإما بسبب تفشي المضاربات المالية على أيدي مراكز القوى للرأسمالية الجديدة.
وربما يتعين استحضار ما ذهب إليه الكاتب الإنكليزي جيمس فولتشر من أن المرحلة الحالية هي في الواقع تعبير عن انهيار “الرأسمالية المنضبطة” الذي بدأ منذ عقد السبعينات ليتطور الأمر إلى ظهور “أصولية رأسمالية” أعادت إحياء قوى السوق بشكل متطرف لا سيما في الدول الرأسمالية المتطورة.
ومع ذلك فإن هذه المشاغل لم تكن في وارد منتدى الدول الغنية، إذ أبدت دول القمة اهتماما أكبر بسبل السيطرة على أسعار النفط ولملمة تداعيات فضيحة كارلوس غصن على مستقبل شركات السيارات الفرنسية واليابانية، وعلاقات بريطانيا التجارية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى عقد الصفقات الجديدة في أروقة المنتدى.
ويمكن فهم مدى سطوة القضايا الرأسمالية على اهتمامات المنتدى في أعقاب الجعجعة التي أثارتها وسائل الإعلام من وراء حادثة مقتل الصحافي جمال خاشقجي وتداعياتها المحتملة على القمة ومشاركة ولي العهد السعودي بالذات، غير أن شيئا من هذا لم يحدث. بل يمكن القول إن مشاركة ولي عهد السعودية كانت ناجحة وأشّرت عليها التحية الروسية ذات الدلالات الواضحة.
وبينما كان الهدف من وراء تأسيس المجموعة في عام 1999 ينصبّ على مواجهة الأزمات العالمية ودعم التنمية المستدامة علاوة على أجندتها التجارية والاقتصادية، فإن تاريخ قمم مجموعة العشرين لا يكشف عن التزامات حقيقية للدول الرأسمالية تجاه العالم والتحديات المشتركة، بما في ذلك مثلا التحولات التي طالت دول الربيع العربي وتسببت في تهجير الملايين من النازحين وتدمير هائل للبنى التحتية والاقتصادات.
لم يكن لتجمع الدول الغنية أي التزام أخلاقي ومسؤول وبقدر متكافئ تجاه اللاجئين الفارين من الحرب والاقتصادات المنهارة، بقدر ما كان موقف هذه الدول حذرا ومخيّبا في غالبيته، عكسه اتجاه الحكومات اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة نحو غلق الحدود وتشييد المزيد من الجدران.
إن نقاط الخسارة تبدو أكثر من الربح إذا ما تمت العودة أيضا إلى نتائج قمة 2017 في هامبورغ والتي تميّزت بصدام أوروبي مع سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من بينها أساسا خسارة الإجماع حول اتفاق باريس لحماية المناخ والتضييق على حرية التجارة العالمية. وبسبب المنحى المتطرف الذي تسلكه الحكومات الشعبوية على طرفي الأطلسي بشأن النزعات الحمائية المتزايدة والاختلاف حول قضايا التغيّر المناخي والهجرة وتزايد سطوة الدوائر الرأسمالية المتحكمة في السلطة، فإن المزيد من الإحباط العالمي يؤشر على أزمة عالمية قد تكون أخطر من صدمة الأسواق المالية عام 2008.