“الربيع العربي” يهاجر إلى أوروبا الديمقراطية
تصطدم تحركات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الطامح منذ اعتلائه سدّة الحكم في الإليزيه إلى صناعة ما عجز عنه أجداده نابليون بونابرت وشارل ديغول في أن يكون الحارس الأوحد لأوروبا بعد توحيدها، بتفشي التحركات الاحتجاجية التي تقودها حركة السترات الصفراء في فرنسا لتشمل جنوب بلجيكا.
انطلقت الشرارات الأولى لما يعرف بحركة السترات الصفراء تحت يافطة الاحتجاج على زيادة أسعار الوقود في مناطق فرنسية محدودة، إلا أنها سرعان ما اجتاحت أنحاء فرنسا وجارتها بلجيكا ليتوسع نطاق المطالب للتنديد بالنظام الضريبي بصفة عامة وبتراجع القدرة الشرائية للفرنسيين منذ بداية حكم ماكرون.
ورغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حاول تهدئة الوضع بدعوته من بلجيكا حيث يقوم بزيارة دولة إلى “الحوار” في محاولة لإقناع المتظاهرين ضد زيادة الرسوم على المحروقات لوضع حد لاحتجاجاتهم التي تشل حركة السير على الطرقات العامة وتمنع الوصول إلى مستودعات النفط، إلا أن ذلك لم يمنع العديد من المراقبين من الحديث عن وضع ربما مشابه إلى حد بعيد لما حصل من احتجاجات في دول الربيع العربي قبل 8 سنوات خاصة مع وقوع المئات من الجرحى ووفاة متظاهر.
ولئن اعتبر ماكرون أنه من الطبيعي أن تجري احتجاجات، بتعمده مرة أخرى توضيح أن استراتيجية الحكومة الفرنسية هي “من جهة فرض المزيد من الضرائب على الطاقات الأحفورية، ومن جهة ثانية تقديم المزيد من الدعم للمعوزين”، فإن ذلك لم يمنع من توسع رقعة الاحتجاجات التي وصلت الأربعاء إلى جنوب بلجيكا ما دفع بوزير الداخلية البلجيكي جان جانبون إلى القول “لن نقبل بقطع الطرق السريعة أو بحصول تجاوزات”.
وتقدّم حركة السترات الصفراء نفسها على أنها حركة شعبية منحازة للفقراء، إلا أن بعض الأطراف السياسية في فرنسا وفي مقدّمتها الحزب اليميني المتطرف والشعبوي الذي تقوده مارين لوبان توظف وفق الملاحظين الحراك الاجتماعي الاحتجاجي الذي تمدّد في وقت قياسي بعدما أظهر آخر استطلاع للرأي أن 70 بالمئة من الفرنسيين أعلنوا رغبتهم في تراجع الحكومة عن قرار الرفع الأخير لأسعار الوقود لإرباك ماكرون وحركته “الجمهورية إلى الأمام”.
وبالتزامن مع ما تظهره استطلاعات الرأي المحلية والدولية من مخاطر الأحزاب الشعبوية على أوروبا، اقتنصت مارين لوبان زعيمة اليمين المتشدد، التي هُزمت على يد ماكرون في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، الفرصة لتؤكد على وقوفها اللاّمتناهي ودعمها لحركة السترات الصفراء، حيث قالت “لا ينبغي أن تخاف الحكومة من شعب فرنسا الذي خرج للتعبير عن غضبه بطريقة سلمية”.
وبات استغلال الشعبويين لهذه التحركات الاحتجاجية، يحرج ماكرون وحزبه حيث ظهر رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب أمام نواب الحزب الحاكم “الجمهورية إلى الأمام” في محاولة لطمأنتهم بقوله “سننتصر بتماسكنا وثباتنا وتصميمنا”.
وعلاوة على ما أظهره استطلاع للرأي الأحد أجرته مؤسسة “إيفوب بين يومي” من أن شعبية ماكرون تراجعت في الأسابيع القليلة الماضية مع استمرار الاحتجاجات في مختلف أنحاء البلاد في أحدث مؤشر على الاستياء من الإصلاحات الاقتصادية التي يقوم بها، فإن الرئيس الفرنسي المحارب للنزعات الشعبوية يجد نفسه أيضا أمام حقيقة أخرى أظهرها استطلاع رأي آخر أجرته صحيفة الغارديان، بالتعاون مع أكثر من 30 من كبار علماء السياسة، تحدث عن كيفية تضاعف أصوات الشعبويين ثلاث مرات في أوروبا على مدى العقدين الماضيين.
ويشير نفس استطلاع الرأي إلى أن واحدا من بين أربعة أوروبيين صوت لصالح الشعبويين أي أن أكثر من ربع الأوروبيين صوتوا للشعوبيين في الانتخابات الأخيرة بعدما تضاعف دور الأحزاب الشعبوية أكثر من ثلاث مرات في أوروبا خلال العشرين سنة الماضية، حيث حصلت هذه الأحزاب على ما يكفي من الأصوات لوضع قادتها في مناصب حكومية في 11 دولة وتحدي النظام السياسي القائم في جميع أنحاء القارة.
ويراهن الرئيس الفرنسي على إصلاح السياسة الأوروبية بتجنيبها المزيد من تفشي حكم الشعبويين، إلا أنه ظل وفق مراقبون غير قادر على تغيير الصورة النمطية للرئيس الذي لا يصغي لمتطلبات شعبه عبر تجاهله منذ توليه السلطة قبل 18 شهرا تنفيذ وعوده بتغيير صورة الاقتصاد وإصلاح المؤسسات، أو الدفع نحو القيام بسلسلة إصلاحات من بينها تخفيف قوانين التعيين والفصل من الوظائف، علاوة على تعنته بعدم الاعتراف بتقلص شعبيته في فرنسا وفي أوروبا.
ومن بين الدلالات اللاّفتة التي أفصح عنها استطلاع رأي الغارديان هو ذلك النمو المطرد في دعم الأحزاب الأوروبية الشعبوية، في 31 دولة أوروبية على مدار عقدين من الزمن.
ويقول ماس مود، أستاذ في جامعة جورجيا، “من المتوقع أن تبقى الأحزاب الشعبوية على هذا القدر من التقدم، رغم أنها ستكون أكثر تطرفا بشكل واضح، متسائلا: كيف تستجيب الأحزاب غير الشعبوية”.
ورغم تكثيف الرئيس الفرنسي لسلسلة جولاته لدول الاتحاد الأوروبي، حيث زار 19 عضوا من بلدان الاتحاد الأوروبي في أقل من سنة ونصف إلا أن كل التطورات تسير بعكس تصوراته الرامية لتخليص دول الاتحاد من كابوس الأحزاب الشعبوية.
ويتكهن العديد من المتابعين للشأن الأوروبي بأن ماكرون قد يفشل حتى بعد نجاحه في ضم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى جبهته المتعددة الإبعاد أوروبيا ودوليا للوقوف أمام تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المستفزة لدول الاتحاد على تقديم شيء يذكر في انتخابات البرلمان الأوروبي القادمة عام 2019.
ويعتبر ماتثيش رووجين، باحث في العلوم السياسية في جامعة أمستردام، أن “الشعبوية مثيرة وأن نجمها شهد صعودا منذ عام 2016 عام استفتاء البريكست في بريطانيا وأن انتخاب دونالد ترامب ساهم في ذلك، مؤكدا أن صحيفة الغارديان نشرت حوالي 300 مقالة تضمنت مصطلحات ‘الشعبوية’ وأنه في عام 2015، تم استخدام هذه المصطلحات في حوالي 1000 مقالة، وبعد عام واحد تضاعف هذا الرقم إلى 2000”.
ومع تزايد استفهامات الأوروبيين عن دواعي صعود الأحزاب الشعبوية ودقهم لناقوس الخطر، يجيب رووجين عن ذلك بتأكيده أن الدراسات الأكاديمية الحديثة أظهرت أن المواقف الشعبوية واسعة الانتشار في جميع أنحاء العالم الغربي وأن الناس يعتبرون أن المواطنين العاديين قد تعرضوا للخيانة أو الإهمال أو الاستغلال من قبل نخبة سياسية فاسدة.
لكنه يستدرك بقوله إن المواطنين ذوي المواقف القوية الشعبية لا يصوتون بالضرورة لحزب شعبي (في الواقع، فإن الكثير منهم لا يفعلون ذلك)، وأن هناك ظروف مختلفة تزيد من احتمال قيامهم بذلك.