نساء عربيّات يبحثن عن منفذ للحياة في “قوارب الموت”

مخاطرة نساء من دول عربية مختلفة كتونس والمغرب ومصر بالهجرة عبر طرق غير شرعية إلى دول أوروبية تكشف أنهن على استعداد للمجازفة بأرواحهن في سبيل التخلص من واقع اقتصادي واجتماعي مرير وفي سبيل تحقيق طموحاتهن التي ضاقت بها أوطانهن.

ترتبط صورة النساء المهاجرات في المجتمعات العربية، بالنابغات اللاتي لم يستطعن تحقيق طموحاتهن العلمية فلجأن إلى الهجرة نحو دول غربية، وأخريات تمت إعارتهن للعمل بإحدى الدول العربية، بعد أن تقدمن لوظائف شاغرة بها، أو بمن اخترن الهجرة تذمرا من التضييق على حرياتهن.

لكن في العقد الأخير برز انتشار نوع آخر من الهجرة ظل حكرا على الرجال، يعرف بـ”الهجرة غير الشرعية” أو “السرية” وأحيانا “غير النظامية”، يعني دخول المهاجرات بشكل غير شرعي دون أوراق ثبوتية، أو عبور الحدود بشكل قانوني والبقاء بعد انتهاء المدة المصرح بها في التأشيرة الممنوحة.

ورغم خطورة التجربة لم تتردد نساء بالمغرب  في امتطاء قوارب الهجرة غير الشرعية هربا من ظروف معيشية صعبة ازدادت سوءا في الآونة الأخيرة .

وتزايدت معدلات الهجرة غير الشرعية في المغرب ، مستغلة الغياب الأمني بالشواطىء الشمالية ، ورغم أنها سرعان ما تراجعت بعد تشديد السلطات الخناق على منظمي هذه الهجرة غير القانونية إلا أن قوارب الموت مازالت تغري الشباب المغربي  حتى أنها لم تعد حكرا على الذكور بل اجتذبت النساء أيضا

و قد  ظهرت هجرة النساء بالمغرب  بطرق غير شرعية  وليست البطالة والتهميش اللتين تطبعان حياة بعض الشباب والشابات السبب الوحيد وراء تنامي الهجرة السرية بالمغرب، بل هناك عوامل أخرى كالانبهار بأوروبا التي ترى فيها الكثيرات أرض الأحلام والسعادة، وهذا الحلم جعل من إحدى الفتيات ضحايا قوارب الموت تقر في مقطع فيديو مباشر على فيسبوك مؤخرا، أنها “إذا غادرت إلى إسبانيا لن تعود ففي إسبانيا كل شيء موجود”.

وقال نائب رئيس المركز المغربي للشباب والتحولات الديمقراطية، حسام هاب، إن “هجرة المرأة المغربية إلى أوروبا عبر قوارب الموت ليست بالظاهرة الجديدة في المجتمع المغربي، بل كانت موجودة وإن بنسب أقل خلال موجات ‘الحريك’ التي عرفها المغرب خلال التسعينات، لكن الجديد هذه المرة في الظاهرة هو انتشارها الواسع إعلاميا بسبب رواج شبكات التواصل الاجتماعي في المغرب والتي أضحت توثق عبر بث مباشر للحظات هجرة المغاربة نحو الفردوس الأوروبي”.

ورغم جهود السلطات المغربية لمكافحة الظاهرة إلا أن المواقع الاجتماعية قدمت فرصة للتواصل بين المهربين والباحثين عن الهجرة، عبر صفحات وغروبات مفتوحة للعموم وأخرى مغلقة، تقدّم كلها معلومات عن طرق وأساليب التهريب التي تسمح بالوصول إلى أوروبا.

وشدد هاب على ضرورة التعامل مع إشكالية هجرة الشباب وخاصة العنصر النسوي باعتبارها ظاهرة اجتماعية ناجمة عن خلل وجب إصلاحه، ويجب أن يتم ذلك وفق استراتيجية اجتماعية واقتصادية وتربوية متكاملة تشرك كل الفاعلين وتراعي مصلحة كل الأطراف.

وأشار إلى أن الزيادة الديموغرافية للشباب في الهيكل العمري السكاني بالمغرب ستكون نتيجتها حتما ارتفاع احتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، بالنظر إلى أن المرحلة العمرية الشابة هي المرحلة الأكثر تأثيرا في تكوين الاتجاهات والقيم السلوكية والمدركات الاجتماعية، وبالتالي سترتفع معدلات لجوء المرأة إلى الهجرة إذا لم يستوعب الطلب الاقتصادي في الأفق القريب النمو الديموغرافي.

وبعيدا عن المغرب فقد تسللت النساء في مصر إلى قوارب الموت، منهن هاربات من تسلط ذكوري، وبعضهن مهاجرات بمفردهن وأخريات بصحبة أزواجهن، وبعضهن حملن أطفالا على الأكتاف أو أجنة في الأرحام.

وكانت بداية كشف إقبال المصريات على الهجرة غير الشرعية في شتنبر  2016، عندما غرق مركب “رشيد” بالقرب من سواحل محافظة البحيرة، وإعلان وزارة الصحة العثور على جثث لفتيات في عقدهن الثاني من محافظات مختلفة، فيما نجت 10 نساء.

لكن سبقت هذه الحادثة، حادثة مماثلة قبل ثلاثة أشهر حين عثرت القوات البحرية المصرية على 9 جثث متحللة بينها جثة سيدة مصرية، كما غرق مركب كان متجها إلى سواحل أوروبا، وانتشلت القوات البحرية 12 شخصا، بينهم 3 سيدات.

 

المخاطرة من أجل حياة أفضلالمخاطرة من أجل حياة أفضل

تدفع مجازفة النساء بسلامتهن في قوارب الهجرة، إلى التساؤل هل وصل الحال بالمرأة إلى الاستقواء على طبيعتها الأنثوية والتفريط في حياتها بهذه السهولة؟ إجابات النساء المهاجرات تختلف من امرأة إلى أخرى بسبب اختلاف المبرر للإقدام على مغامرة قد تكون عواقبها إما الموت أو الفقد وإما السجن، ومع اختلافها فهي بحاجة إلى دراسة عميقة غابت عن جميع المراكز البحثية في مصر.

فاطمة ، وهي سيدة مغربية ثلاثينية، تعيش حاليا مع زوجها (47عاما) في إيطاليا بعد وصولها إليها عبر هجرة غير شرعية، كلفتها الرحلة حوالي 2248 دولارا، وخلال اتصال هاتفي تروي قصتها مع قوارب الموت التي تقول إنها اختارت أن تمطيها هربا من مرارة الواقع.

وأشارت إلى أن فتيات كثيرات يعشن في مناطق شعبية وقرى فقيرة نشأن في كنف مجتمع يقبع في مخيلته أن كل أنثى هي الست “أمينة” جارية لـ”سي السيد” في الفيلم المصري “بين القصرين”، وهي شخصية تخضع للفكر الذكوري بكل ما يحمله من تسلط.

نشأت فاطمة في منطقة شعبية ، وأدركت أنه لا حقوق ولا كرامة للمرأة في منطقتها، فلم تسلم يوما من التحرش اللفظي أو الجسدي، وعندما تزوجت كان سبب سعادتها التخلص من العنوسة. وبعد أربعة أشهر تركها الزوج في رحلة هجرة غير نظامية للعمل بمجال السياحة في إيطاليا، وبعدها بأيام فاجأها بزواجه من إيطالية حتى لا يتم ترحيله، حينها راودتها فكرة السفر إليه وعزمت على الالتحاق به عندما تأكدت أنها تحمل جنينا بين أحشائها.

ولم تكن خطوة السفر فقط تحت تأثير العاطفة بل كان السفر للفتاة أمنية تخالجها كلما رأت احتفاء أهالي المنطقة بالقادمات من دول الخليج محملات بالهدايا للأقارب والجيران، في حين أنها كانت تعاني من ظرف مادي صعب. لم تبال حاملة الشهادة الجامعية بما سيلحق بها وبطفلها، فهو أقل ضررا من نظرات الشفقة أو التشفي في عيون المحيطين بها، حيث سافرت على متن مركب حمل على ظهره 30 فردا من جنسيات مختلفة.

تشير فاطمة  إلى أن ما طمأنها هو وجود أخريات على المركب، فهناك نساء بصحبة أزواجهن، وأيضا سيدة هربت من حكم بالطاعة وأخرى من السجينات قضت عقوبتها وعندما غادرت السجن لم تحتمل النظرة المجتمعية وغدر الزوج، وما لفت نظر فاطمة وجود خمس فتيات في العشرينات أو أقل، بشرتهن سوداء، علمت بأنهن في طريقهن لصديقات تعرفن عليهن من خلال فيسبوك ووفرن فرص عمل لهن بمدينة صقلية.

لا تتذكر فاطمة  عدد الساعات  التي قضتها على المركب، لشدة الألم والدوار اللذين ألما بها طوال الرحلة، لكن ما زال عالقا بأذنها صرير الرياح وهدير الأمواج التي تنفض المركب بين فينة وأخرى لتلطمه فتطرحهم أرضا، قائلة إن الرحلة بالنسبة لنساء كثيرات كانت “تذكرة موت”، حيث استحضرت عنوانا قرأته لمشروع تخرج اختاره فريق طلابي بقسم الإعلام في كلية الآداب ، في إطار حملة أطلقت لمعالجة الظاهرة، لكن بالنسبة لها فهي “تذكرة موت من أجل الحياة” وللنجاة من الواقع البائس الذي كانت فيه.

ورغم القصص المؤلمة لم تتحول هجرة المغربيات بطرق غير شرعية حتى الآن ، كما لم يذكر عدد المهاجرات لصعوبة ذلك بسبب طبيعة هذا النوع من التحركات التي تجري خارج القنوات النظامية.

وأدت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المغربية  لمكافحة الظاهرة إلى تراجع معدلاتها بصورة كبيرة، لكن هناك تخوفات من عودتها، أمام توقعات بأن تشهد السنوات المقبلة ارتفاعا في نسبة النساء المهاجرات على قوارب الموت، نتيجة التدهور الاقتصادي والعزوف عن الزواج والاتكالية الذكورية.

وتريد الفتاة التي درست علم النفس الالتحاق بمن تحب بعد أن سافر منذ 4 سنوات، لكنه لم يستطع إلى الآن توفير متطلبات زواجهما، وبسبب ذلك فسخت خطبتها، ثم وافق والدها على زواجها من رجل آخر وتحولت إلى ما يشبه سلعة تباع لمن يدفع أكثر. وبينت أن هذا حال الكثير من صديقاتها اللاتي ينتظرن الفرصة المناسبة للهروب من قيود المجتمع، والانتقال إلى دول أخرى حتى إن كانت الوسيلة قوارب متهالكة، وأردفت بقولها “ركوب المجهول بتذكرة موت، ليس أشد قسوة من اغتراب داخلي في مجتمع لا يرى في المرأة إلا جسدا لإرضاء الغرائز وإنجاب الأطفال”.

وتكشف تجارب العربيات الراغبات في الهجرة عن حقيقة مهمة، وهي أن المرأة اليوم على استعداد للمخاطرة من أجل تحقيق طموحها، وهذا بدوره يبرهن على أن حركة النساء من الدول التي فشلت في توفير حياة كريمة لهن، إلى الدول المتقدمة، هي حركة لا مناص منها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: