أندري أزولاي مغربي يجتمع فيه ما تفرق في غيره
سبعة وسبعون عاما عمره اليوم، لكن هذه السن المتقدمة لم تمنعه من العمل بقوة ومنهجية وتدبر لتمهيد كل الطرق المؤدية إلى حوار الحضارات والثقافات، وتعتبر هذه الشخصية ذات الديانة اليهودية النموذج الأمثل والحاضر على حقيقة غنى التنوع والتعددية الثقافية للشخصية المغربية وشاهدة على قرون طوال من التعايش البناء، هو أندري أزولاي السياسي المغربي الذي يشغل منصب مستشار رفيع المستوى لدى الملك محمد السادس كما كان في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
عائلته عرفت بولائها لبلدها ولملكها، عبر تاريخها كله، فقد أعفي والده من مهامه الوظيفية من طرف سلطات الحماية الفرنسية بسبب مساندته للوطنيين المغاربة، يقول عن نفسه “بين عامي 1953 و1954 ودون سابق إعداد أو اقتراح، أتذكر أنني وبشكل طبيعي أيضا، كنت ألتقي بأصدقائي المسلمين من أجل التظاهر معهم كل مساء عند الغروب رافعين شعارات تدعو إلى نهاية الحماية الفرنسية وعودة الملك محمد الخامس”.
في العشرينات من عمره التحق بفرنسا لمتابعة دراسته العليا هناك، بعدما درس في مدارس المغرب.
يقدم هذا المصرفي الذي سبق له العمل في مصرف فرنسي كبير، نفسه كمغربي يجتمع فيه ما تفرق في غيره كيهودي أمازيغي عربي. فمدينة الصويرة على ضفاف شاطئ الأطلس المتوسط هي مسقط رأسه، والتي مازالت شغفه الكبير وموطئ سفره الروحي والثقافي والفكري.
شغف الصويرة القديم
عمل أزولاي في مجموعة الوظائف التنفيذية داخل بنك باريبا في باريس بين 1967 و1991، المجموعة التي غطت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما اشتغل بالصحافة، إذ كان رئيس تحرير «ماروك أنفورماسيون» في ستينات القرن الماضي وحاور العديد من الشخصيات المؤثرة آنذاك منهم القيادي الاشتراكي البارز عبدالرحيم بوعبيد، فتشكلت ثقافته بعمق وشمولية. ولذلك يبرز دفاعه عن فكرة وطن واحد لليهود والفلسطينيين تحت ظل دولة واحدة، من وعي أصيل بالتفاصيل، ما دفعه إلى لقاء مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية، لأول مرة، بشكل سري في شمال المغرب في العام 1973، اللقاء الذي رتبه الملك الراحل الحسن الثاني، كما التقى في طليطلة، بأبي مازن، محمود عباس، مع مسؤولين آخرين.
حب أزولاي لمدينة الصويرة مسقط رأسه جعل منها محجا لتلاقح الثقافات، وحصنا من التعايش بين الديانات والحضارات. استطاع أن يفي بوعده بأن يبقى مغربيا تتجمع بداخله كل عوامل التنوع والتعدد الهوياتي، وفيا لجذوره ومسقط رأسه.
يتأسف أزولاي لكون مدينته لا تتوفر حتى الآن على جامعة للدراسات العليا، مسترجعا ذكرياته التي يقول عنها “عندما كنا صغارا كنا نذهب كل يومين في الأسبوع إلى المكتبة لمطالعة الكتب التي اختارها لنا آباؤنا، وللأسف في الوقت الحالي لم يعد هناك وجود لتلك المكتبات”.
وحتى يعطي لهذه المدينة إشعاعا ثقافيا نظم عدة ملتقيات ثقافية وفكرية ومهرجانات موسيقية، وعبر عن حظه الوافر لوضع الصويرة–موكادور على خارطة العالم كحامل لواء متوسطي للحوار بين الثقافات والمدينة المرنة، حيث يلتقي كل ما يتعلق بالثقافة الإنسانية وبالتبادلات الروحية بين الإسلام واليهودية. “أولئك الذين لا يهتمون بما فيه الكفاية بتاريخهم وماضيهم لا مستقبل لهم. المستقبل محفور بالتاريخ”.
افتتح شخصيا في أكتوبر الماضي فعاليات الدورة الرابعة للمنتدى الأورومتوسطي للقادة الشباب لمدة ثلاثة أيام، وجمع أزيد من 300 شخصية بارزة بالصويرة، تكريسا لتقليد سنوي واستمرارا للتأسيس لمشروع فكري متوسطي يقطع مع الأفكار النمطية وينهي سطوة القطائع الثقافية والهُوياتية التي تباعد بين شعوب ضفتي المتوسط وتغذي ذهنية الانغلاق والفكر المتطرف.
ولأهمية هذه المدينة العريقة فقد احتضنت مدينة الصويرة بداية نوفمبر الجاري منتدى “سانت لويس”، حول موضوع “العيش بشكل أفضل في العالم”، ويعرف هذا المنتدى “سانت لويس” باعتباره فضاء لإسماع صوت أفريقيا للعالم، ومناقشة أفريقيا أزولاي بهذا المنتدى كما نراها الآن نحن بشمال القارة الأفريقية أو بالنسبة للغرب الأوروبي، وبالضبط بمدينة الصويرة، تحمل مدلولا آخر، فمنتدى “سانت لويس” كما يراه أزولاي هو فضاء تتجسد فيه حرية التعبير بالنسبة للجميع، ويمكّن من رسم وإبراز رؤية حول أفريقيا.
نموذج مصغر للمغرب
لأسباب ثقافية وحضارية أسس أزولاي جمعية “الصويرة موكادور”، ومن خلالها تم الاحتفاء مؤخرا بالمغنية الشعبية الحاجة الحمداوية في مهرجان “الأندلسيات الأطلسية”، كأحد المهرجانات التي يشرف عليها، بحضور مغاربة ويهود من داخل المغرب وخارجه، وهي ترجمة للتنوع الإثني والثقافي والديني بالمملكة.
أزولاي دائم الحديث عن أن هذه المدينة الأطلسية بمثابة نموذج مصغر للمغرب، أرض غنية بعمق تنوعها حيث تعايش الإسلام واليهودية وتلاقحا مع بعضهما البعض، منذ صغره ونظرا لاحتكاكه بالمجتمع الصويري خلص إلى أن المحافظة على اليهودية بالمغرب هي مسألة كرامة وعدالة، تشعر بها في أعماق كل المغاربة.
ويفهم أزولاي ذلك بأنه مهما كانت الفوارق والنسيان أو متاهات لحظة ما، فإن التاريخ يلحق بنا في النهاية ويفرض وقائعه التي لا تتجزأ، فالكيس الصغير من التراب الذي جلبه قبل نصف قرن من القدس، التي كانت تحت إشراف أردني، من طرف مغربي مسلم، لصديقه المغربي اليهودي الذي هو والد أزولاي، لم يفقد شيئا من راهنيته ومن مثاليته وحقيقته كما يقول “كان ذلك قبل عقود وكنت شاهدا عليه، وكان والدي وصديقه المسلم الحاج الإمام الفاعلين فيه ولم يكن أحد منا نحن الثلاثة، في سحر هذه اللحظة الأخوية المتقاسمة، يتصور أن هذه الحكاية الحقيقية ستجد ذات يوم امتدادها في تصدير الدستور الجديد الذي اقترحه الملك محمد السادس على الشعب المغربي”.
إن الهوية المتعددة للصويرة باعتبارها حاضنة لمزيج من اليهودية والأمازيغية والعربية، جعلتها بقعة فريدة من نوعها، وهو ما يفرض على الجميع استيعاب حجم المسؤولية التي تقتضيها المحافظة على إرث وجذور المدينة العريقة.
آفاق وحدود المهمة
للمستشار بالنظام الملكي وضعية اعتبارية وقوة اقتراحية رغم أنه غير منصوص عليها كهيئة استشارية في الدستور أو القانون المنظم للمؤسسات العمومية، يقول المستشار المخضرم الراحل عبدالهادي بوطالب في كتابه “نصف قرن في السياسة” إن الملك الحسن الثاني لما استدعاه مع أربعة من مستشاريه الأربعة: أحمد رضا كديرة وإدريس السلاوي وأحمد بن سودة، خاطبهم بالقول: ستكونون مستشارين لي بالديوان الملكي، والمستشارون هم خُلَصائي وجلسائي المقرَّبون إليَّ، فلا أختارهم إلا من بين الذين يعرفونني ويعرفون توجهاتي وممن لا يضايقني أن أستقبلهم ولو في غرفة نومي وحتى من دون أن أكون قد غادرت الفراش.
أزولاي يدرك جيدا حدود مهمته بعدما دشن أول عهده بوظيفة الاستشارة في العام 1991 عهد الملك الراحل الحسن الثاني، واستمرت الثقة التي وضعها فيه الملك الراحل إلى حد الآن في عهد الملك محمد السادس، وأدواره الاستشارية مستمدة من شبكة العلاقات التي راكمها لسنوات طوال في الدوائر السياسية والاقتصادية والثقافية العالمية.
ولزيادة فهم هذه المهنة فإن من بين المهام المنوطة بالمستشار بأقدم بلاط ملكي بالعالم والتي عددها بوطالب زميل أزولاي، فقد قام الحسن الثاني بتحديد وتوزيع مهام مستشاريه. فجمعهم وقال لهم “مهمتكم أن تتابعوا عمل الوزراء، وتكونوا واسطة بيني وبينهم في ما يبعثونه إلى الديوان الملكي، وتقدموه إليّ مع ملاحظاتكم عليه، وتقترحون عليّ أفكاركم بشأنه لأتخذ القرار على ضوء ذلك”. وحتى لا يقع تداخل بين مهمة المستشار والحاجب استطرد الحسن الثاني موضحا “ليس معنى هذا أنكم ستكوِّنون حِجابا فاصلا بيني وبين الوزراء”.
منصبه كمستشار في البلاط الملكي مكلف بالشؤون الاقتصادية ومهام أخرى يندرج في إطار ما هو ثقافي وحضاري يعتبره امتيازا ومسؤولية، وهي إشارة حداثة وإنسانية وسمو يبعث بها المغرب إلى الآخرين. فأزولاي يقدم نفسه للمتحاورين معه كشخص غني بمسار يمتد لقرون من الزمن حيث تمتزج الثقافتان الإسلامية واليهودية، وهذا الغنى يتكئ عليه المستشار في مهامه خارج وداخل المغرب فهذه التعددية الثقافية بالنسبة إليه نعمة الحياة أدار الآخرون ظهورهم لها.
واهتمامات أزولاي الحالية تنصب بالأساس على المؤلفات التي لها علاقة بالمواضيع التي تشغل تفكيره والتي تكتسي طابع الآنية، يقول “لقد مرت سنوات كثيرة لم أعد أتذوق فيها طعم الأدب الخالص، وأصبحت أتوجه أكثر للدراسات والبحوث ليس بالضرورة تلك التي لها علاقة بالمجال السياسي، بل الدراسات القريبة من المواضيع التي تهمني والتي تركز على كل ما له علاقة بمعيشي اليومي وبطبيعة عملي”.
رؤية الملك لبناء الجسور
ولا يمكن أن يكون رأي المستشار الملكي غائبا في قرار المغرب العودة إلى الاتحاد الأفريقي والانفتاح اقتصاديا واستثماريا وتجاريا على القارة السمراء، فالخلفية الاقتصادية لأندري أزولاي وعلاقاته مع دوائر المال والأعمال في أوروبا وأميركا جعلته يقول إن “انتماءنا لأفريقيا ليس فقط انتماء ظرفيا، وهو ليس ثمرة إستراتيجية سياسية، بقدر ما هو انتماء لحضارة عظيمة، وإن السياسة التي ينهجها الملك محمد السادس بأفريقيا، باعتبارها سياسة رائدة ومتجذرة في شرعية تاريخ مشترك ومتقاسم، قد تشكل، مستقبلا، حجر الزاوية للاتفاق الجديد الذي تتطلع إليه القارتان الأوروبية والأفريقية”.
في العقود الأخيرة كثف أزولاي أنشطته الثقافية والفكرية وعملية بناء جسور من التعاون المشترك على أسس من الحوار والتفاهم، بترؤسه لمنظمة “آنا ليند” الأورومتوسطية للحوار بين الثقافات، وللمؤسسة الخيرية للثقافات الثلاث والديانات الثلاث، وعضويته في لجنة حكماء “تحالف الحضارات”. كل ذلك جعله يكوّن فكرة جد واضحة حول مجال حوار الحضارات ويلغي من ذهنه أي صدام بينها فهي بالنسبة إليه نظرية غاية في البساطة والصدام الحقيقي هو بين الجهلاء.
ونظرا لهذا التراكم ولشبكة علاقاته على المستوى الداخلي بالمغرب والعالم والأدوار التي يلعبها في المجال الثقافي فقد حصل من مجلس أوروبا على جائزة “شمال جنوب”، وجائزة أخرى من مركز التفكير للعلاقات عبر الأطلسية التابع لجامعة هوبكنز الأميركية، وجائزة “السلام” التي منحتها إياه مؤسسة “دوتشي” الإيطالية. وكان اهتمامه بالحوار وتقريب وجهات النظر، ولا يزال، ديدنه في حياته الشخصية والعامة حيث أسس في العام 1973 مجموعة “الهوية والحوار”، كأول مجموعة أو جسم يجمع أكاديميين ومثقفين عربا ويهودا يعملون جنبا إلى جنب، والحوار بين الحضارات وتقارب الديانات هي معركة حياته، التي بدأت منذ نصف قرن تقريبا.
ولهذا السبب أسس مؤخرا مهرجان الموسيقى الأندلسية الأطلسية، والذي يعرض مخزون الموسيقى الأندلسية العربية واليهودية، وهذا المهرجان هو الوحيد في العالم الذي تلتقي به اليهودية والإسلام، ولطالما أندهش لرؤية هؤلاء المغاربة في الجانب الآخر من البحر المتوسط يدافعون ويحمون ميراثهم الثقافي بمدى كبير من المشاعر الجياشة والحزم، وينقلون مغاربيتهم ويحتفون بها، انطلاقا من الموسيقى، مرورا بالأدب، الطبخ، صون الذاكرة والملابس التقليدية.
يوجد نحو مليون يهودي في العالم يعتبرون المغرب وطنا لهم وفضاء تعمقت جذورهم فيه، ورغم أن هؤلاء اضطروا في ظروف معينة من تاريخ المملكة المغربية إلى مغادرة بلدهم، لكن ذلك لم يمنع المستشار الملكي من إعادتهم من خلال مجموعة من المهرجانات الثقافية والدينية والموسيقية التي تعنى بتاريخهم كمغاربة، نجح أزولاي في هذا المسعى الذي يكرس سياسة المغرب اتجاه هذا المكون الهوياتي.
“هذا التنوع الذي أعيد إحياؤه وبناؤه وتبنيه، ملك لنا” يقول أزولاي مضيفا “إنه امتياز وافتخار أن نعبر بطريقة بسيطة لا يلفها الغموض. فنحن المغاربة لدينا من المشروعية ما يؤهلنا لنقول، في الآن ذاته، من نحن ونعبر عن عمق قيمنا، فالمغرب فهم ذلك جيدا عندما نص في تصدير دستوره الجديد المصادق عليه في يوليو 2011 على المكانة المؤسسة وتجذر الحضارات الأمازيغية واليهودية والأندلسية في المجتمع المغربي وفي هوية الشعب المغربي”.
اليوم المغرب أمة كبيرة وعريقة تحترم قيم التسامح والأخوة التي تشكل الأسس الحضارية والهوية الثقافية للمملكة، لذلك يسجل أزولاي أن الملك محمد السادس ما فتئ يعمل من أجل أن يبقى هذا التاريخ حيا من خلال مصادقة الشعب المغربي على دستور 2011 الذي ينص على وحدة المغرب، التي تقوم على وحدة كل مكوناته العربية والإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية إلى جانب روافدها الأفريقية والأندلسية واليهودية والمتوسطية.