هل تحيي المبادرة المغربية مشروع اتحاد المغرب العربي المعطل
فتحت دعوة المغرب إلى الحوار مع نظيرته الجزائر باب النقاش واسعا أمام المحللين، بين من يرى أنها تحمل رسالة جادة من الرباط للتوافق وحلحلة الملفات العالقة، ومن يعتبر أنها لا يمكن أن تتجاوز حدود التذكير بأنه آن الأوان للخلاف أن ينتهي، فيما يذهب شق ثالث إلى التأكيد على أنه طالما لم يكشف الطرفان عما يريد كل واحد منهما من الآخر، فإن تصحيح مسار العلاقة بين البلدين لا يزال بعيد المنال.
عموما لا يمكن تصوّر أي رؤية لحلّ المسائل الخلافية التي عطّلت مسارات التفاوض بين المغرب والجزائر، ومنها مشروع اتحاد المغرب العربي، دون الجلوس على طاولة الحوار. وهي قاعدة أساسية ينطلق منها المغرب لحلحلة الجمود الذي يطبع علاقته بجارته الجزائر منذ سنوات.
في هذا الإطار يمكن اسكتناه رؤية المغرب للحوار والتي لخصها خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس هذا الشهر ودعا فيه الجزائر إلى تأسيس لجنة مشتركة لبحث الملفات “الخلافية” العالقة. وقال الملك في خطابه بمناسبة الذكرى الـ43 لـ”المسيرة الخضراء”، إن الرباط “مستعدة للحوار المباشر والصريح مع الجزائر الشقيقة لتجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية”.
ويقول محللون إن دعوة الرباط إلى الحوار مع الجزائر لتجاوز القضايا الخلافية بما في ذلك فتح الحدود المغلقة من شأنها أن تحرّك المياه الراكدة في العلاقات الثنائية بين البلدين الجارين وتؤسس لإحياء مشروع اتحاد المغرب العربي المركون في الرفوف.
لكنّ هؤلاء المحللين يتساءلون عن الإطار الضامن لهذا الحوار ووفق أي أسس وأي قاعدة يمكن لهذه المبادرة المغربية أن تنجح في كسر الجمود بين البلدين. فيما الأهم وفق رؤية بعض الخبراء ماذا جهّز المغرب من حلول لطلب النقاش مع الجزائر؟ في المقابل ما هي مقترحات الجزائر للحل، وبصورة أوضح ما هي طلبات الجزائر لإنهاء هذا الخلاف الذي عمّر طويلا بين البلدين؟ أسئلة وسيناريوهات تستدعي من طرفي المصالحة تحديد برنامجهما مسبقا قبل المرور إلى طاولة النقاش.
بين المغرب والجزائر لا توجد حدود للصراع الدائر على جميع الصعد، بدءا بالسياسة فالاقتصاد، مرورا بملف الهجرة وأزمة الحدود وليس انتهاء بأمّ القضايا والموقف الدبلوماسي الجزائري المتلون وتأزيم الوضع حول ملف الصحراء المغربية.
لكن الدعوة إلى المصالحة وفتح حوار مباشر مع الجارة الجزائر التي طرحها العاهل المغربي، جاءت لتضع كل هذه القضايا جانبا وفق رؤية تشاركية يمكن تطويرها لتشمل مناحي عدة مستقبلا.
عناصر عديدة في الملف الأصلي لا يكتمل تفصيلها إلا بوضعها جميعا على طاولة التشريح وتفكيك الألغام التي تحوّطها من كل اتجاه لفهم رؤية المغرب من إصلاح العلاقة مع الجزائر ودفعها للنزول إلى أرض الواقع ورؤية الأمور من زاوية أخرى غير تلك المغالية في الهروب إلى الأمام والتنصّل من مسؤولياتها، خصوصا في ظل ظرفية متقلبة كالتي تمر بها دول المغرب العربي حاليا وخصوصا ليبيا وبدرجة أقل تونس.
يتحرّك المغرب انطلاقا من فهم واع ومدروس للقضايا التي أضحت تؤرق البلدين في السنوات الأخيرة وأساسا آفة الإرهاب ومشكلة الهجرة السرّية عبر الحدود. فَهْم ملكي مدروس واستشعار للخطر الذي أضحت تمثله الكيانات المتربّصة بالمملكة كما أزمة الحدود الجزائرية التي يتدفق منها الآلاف من المهاجرين للتراب المغربي ومنه إلى بلدان أوروبا، فرضا تنسيق الجهود وطلب الحوار كأداة لتفعيل العمل المشترك بين البلدين.
إضافة إلى القضايا المصيرية الملحة، يبدو تركيز المغرب منتصرا لقاعدة تنويع شركائه وفتح حدود الشراكة مع الجميع بما في ذلك جيرانه. وهو منطق يسيّر رؤية المغرب الجديدة بعدم الارتهان إلى جهة بعينها أو طرف بعينه، بما يعزز دوره في تذليل الهوّة بين دول اتحاد المغرب العربي ويسمح بردم هامش النقاش حول قضايا يمكن تجاوزها. قراءة موقف الرباط لا يمكن فهمها إلا في إطار مسعى نحو الحل يهمّ أم القضايا وهي قضية الصحراء. رؤية جادة يسير فيها المغرب منذ الإعلان عن استراتيجيته الاقتصادية المعتمدة على تنويع الشركاء والالتفاتة نحو جيرانه.
كمَا في أفريقيا التي أعاد المغرب تجديد عضويته فيها بعد غياب دام 33 عاما وقد اختزل العاهل المغربي حينها واقع منطقة المغرب العربي بأنها “الأقل اندماجا في القارة الأفريقية إن لم يكن في العالم”. يحافظ المغرب على شراكته الواسعة مع العديد من الدول في الشرق الأوسط وخصوصا دول الخليج، ويعمل وفق تراتبية واسعة لتجديد الثقة في شركائه. كذا الأمر مع الأطراف الغربية والدول المصنعة الكبرى التي لا تغيب على رؤية الرباط التنموية والاستراتيجية. وهي مسألة يقول عنها العمراني بوخبزة الخبير في العلاقات الدولية، إن المغرب “اختار منهجية تقوم على أساس تبادل المصالح إعمالا لشعار التعاون ‘جنوب-جنوب’ القائم على أساس أن الكل رابح”. ورأى بوخبزة أن “المبادرة المغربية تأتي لخلق أجواء جديدة تمكن من الانطلاقة نحو المستقبل”.
يجد هذا الكلام صدى له في الأشواط المتقدمة التي قطعها المغرب اقتصاديا والتركيز المنصب للمملكة على النهوض بتجاربها التنموية نحو أفق أرحب على مستوى البنى التحتية وفي المجال التصنيع المتطور. آخر الشواهد ما سجلته المملكة هذا الأسبوع من تدشين لخط السكك الحديدية الجديد فائق السرعة الذي يربط الدار البيضاء بطنجة على مسافة 350 كلم بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وغيرها من المشاريع العملاقة التي يفاجئ المغرب العالم بإطلاقها.
على النقيض من هذا التمشي تجد الجارة المدعوة للتحاور نفسها في أتون من الأزمات التي تحوّطها من كل الاتجاهات، وإن بدرجات متفاوتة مع بقية بلدان المغرب العربي على غرار تونس التي تعاني أزمة سياسية واقتصادية خانقة والجارة ليبيا التي لم يجن فاعلوها السياسيون غير الوعود الدولية على كثرة مؤتمراتهم في الخارج وداخل منهك على وقع فوهات بنادق الميليشيات المنفلتة في كل اتجاه.
معلوم الظرفية الخانقة التي تمر بها الجزائر حول أزمة الرئاسة ولغط الولاية الخامسة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وملفات الفساد والإقالات التي طالت العديد من الشخصيات والرموز الحساسة في جهاز الدولة ومازالت ارتداداتها متواصلة. يضاف إلى ذلك الاحتقان الذي تعيشه البلاد على وقع تفاقم الأزمات الاجتماعية ووصولها سقفا لا يمكن تحمله مما يوحي بتفجر الأوضاع في كل لحظة.
سيناريو الحل لا يمكن أن يكون إلا بتوافق الرؤى بين جميع الأطراف الفاعلة في ملف المغرب العربي، والجزائر هي العنصر الضاغط الذي يتوجب إيجاد صيغة مرضية وقنوات تواصل معها في هذا الخصوص. في المقابل يتحرك المغرب انطلاقا من وضعية مريحة يتمتع بها وأهلته للعب دور المحاور.
سياسة الحوار المفتوح مشروع ضامن للحل لكل الأطراف المتصارعة على خلافات مرحلية يمكن تذليلها وفك عقَدها، والتي إن وضعت على طاولة النقاش الجاد ستفضي حتما إلى مخرج ليس فقط للمغرب الماد يده للجميع بل أيضا لبقية الدول المغاربية للخروج من أوضعاها المتأزمة.