المسكوت عنه في الإعلام المصري.. الزفّة الرئاسية أكبر من الثورة
لا يقضي على غبار صوتيّ تثيره الزفّة إلا قَدَرٌ من اثنين: انتهاء تمثيلية العرس بسلام، أو نشوب مشاجرة بعد ضجر الحضور ونفاد قدرتهم على تمثيل حالة الفرح. ومنذ دوران مصر في فلك أميركي لقاء معونة عسكرية سنوية، كانت لحسني مبارك كل عام رحلة على الأقل يصطحب فيها إلى واشنطن فيلقا من الصحافيين ومذيعي التلفزيون.
ولم يجرؤ أحد على السؤال عن الكلفة السنوية لزفّة يغني عنها مصور تلفزيوني ومسؤول الإعلام في مؤسسة الرئاسة، أو مندوب وكالة الأنباء الحكومية في العاصمة الأميركية، وفي زحام المشكلات لم تفتح ثورة 25 يناير 2011 ملف تلك “الزفّة”. وبعد صعود قوى الثورة المضادة واستقرارها، أخذت الرحلة الأميركية طابعا شعبويا لا يشبه إلا نفسه، ولا اسم له إلا أنه زفة يُحشد لها مصريون في الولايات المتحدة، وخصوصا المسيحيين بتعليمات كنسية، فيكونون حصان طروادة الإعلامي، لتمرير شيء من التضليل، والإيهام بمؤيدين للرئيس هناك، وكأن الرحلة استفتاء خارج الحدود على الشرعية، وليست مهمة عمل تتعفف عن استجداء هتّيفة يحترفون تصوير مقاطع قصيرة لزوم الاستعمال الموجّه في وسائل التواصل الاجتماعي، وهم يرفعون الأعلام ويرددون “تحيا مصر”.
كنت أظن أن الرجل القويّ الحكيم في فيلم “بعد الموقعة” يبالغ بقوله إن نظام مبارك سيعود من دون مبارك، وقد ساد في عهده فساد واستبداد من النوع الذكي، وتمتعت الصحافة بهامش من الحرية يراه أعداء التغيير الآن سببا لثورة 25 يناير؛ فينسفونه منعا لثورة تنتظر انطلاق شرارة.
وحققت المؤسسات الصحافية الكبيرة إيرادات تفوق النفقات، ولم تضطر إلى التسول الحكومي أو الاقتراض لتغطية مشاريع جديدة. وفي الانتعاش الاقتصادي لا يؤثر البذخ الخاص ببدل السفر وأعباء الإقامة وتكلفة المكالمات الدولية، وهو ما لا تحتمله حاليا مؤسسات مثقلة بالديون، ويرهق ميزانياتها أن يرافق الرئيسَ سريّة تضم بضعة أفراد من كل مؤسسة، بداية من رئيس مجلس الإدارة ورؤساء تحرير عدة إصدارات وصولا إلى محرري الرئاسة، ويأتي الحصاد الصحافي هزيلا تعبر عنه أرقام توزيع الصحف والمجلات خلال الرحلات والمؤتمرات الرئاسية في الداخل، وهي تقريبا لا تعني القارئ، فيعرض عنها عملا بالمثل القديم “البلد بلدهم”، ويضيف إليه “الصحف صحفهم”.
لا علاقة لي بالعجين السياسي؛ فالظاهر منه دائما أقل مما يسمح برؤية واضحة، وإنما أتكلم عن المعالجات المهنية، والحكمة في إيفاد هذا الفريق من إعلاميين وصحافيين لا يقابلهم الرئيس المصري، ولا يقابلون الرئيس المضيف، وغاية أمانيهم أن ينصتوا في مؤتمر صحافي إلى بيانات رسمية، ولا يغارون من جرأة صحافيين من البلد المضيف على الأسئلة. وفي بعض الرحلات لا يراهم الرئيس، إذ يكلفون أو يتطوعون بمهام ليست صحافية، فيسبقون الرجل إلى قاعة الاجتماع أو مكان المؤتمر، ويصطفون لتحيته في الدخول فيومئ إليهم برأسه، وإذا كان مزاجه رائقا لوّح بيده، وذات مرة صافحهم.
إيماءة أو تلويحة أو مصافحة هي حصاد يكلف كل مؤسسة صحافية في اليوم الواحد ما لا نعرف قدره من الدولارات. وأما المحصول المهني فيتشابه في اللون والطعم والرائحة، لا اختلاف في معلومة، ولا محاولة للتثبت من أمر بلقاء خاص مع مسؤول أجنبي، هو نفسه الشيء الذي نسميه في مصر “البطيخ”، ويسميه الجزائريون “الدّلاع”.
لا اجتهاد إذن، فمن يجتهد معرَض للخطأ، والمجتهد هنا ليس له أجر، وإنما قد يكون عليه أن يحتمل ثمنا باهظا هو فقدان المنصب، فلا يخاطر بل ينتظر موظفي الهيئة العامة للاستعلامات أو المتحدث الرئاسي، حيث يتم توزيع ثوب من القماش المهني الخام على الجميع، فيقتطع منه رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير تفاصيل يصنعون منها ثيابا رسمية تراعي الأناقة ولا تتخلى عن ربطة العنق المزينة بالعناوين والصور، ويتولى محررو الرئاسة تقطيع بقية المادة وتوزيعها في واجهة العرض، فيضعون هنا جاكيت، ويقابله قميص، وفي الزاوية الفارغة شورت أو سروال. وفي الغالب يتولى المطبخ الصحافي في القاهرة أغلب هذه المهام، بعد بث التفاصيل في الوكالة الرسمية. أما القارئ فهو غير موجود.
لا توجد زفة لرؤساء آخرين يشاركون في الاجتماعات الدورية للجمعية العامة للأمم المتحدة، ونرى البعض يفترش الأرض، أو يقف وحيدا في زاوية ليراجع كلمته. ولا أظن أحدهم يجرّ وراءه كتيبة إعلامية من مهامها تقصي ما ينشر من أخبار وتقارير ومقابلات في صحف أميركية عن المشاركة المصرية.
وفي مصر لا نرى زفة لزائريها، ومن الطبيعي أن تهتم الصحف الحكومية المصرية بأي لقاء رسمي مع رئيس زائر، ولكن نشر تقرير مصحوب بصورة للرئيس المصري ومضيفه في أي دولة يعاد نشره في مصر، مع إبراز دلالته على اهتمام الإعلام في البلد المضيف، وهذا من المضحكات.
في كتابه “مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان”، يسجل محمد حسنين هيكل أنه حضر احتفالا في لندن دعي إليه السفير المصري في بريطانيا محمد شاكر، في اليوم السابق لزيارة مبارك الذي كان سيحل ضيفا على الملكة إليزابيث الثانية، في قصر باكنغهام لمدة أربع وعشرين ساعة.
وكانت القاهرة قد طلبت إلى السفير، قبل شهر من الزيارة، ترتيبات أمنية معقدة في القصر، ووجود مطبخ قريب يهيأ لطباخ الرئيس. وكان السفير يتنقل بين المسؤولين البريطانيين قلقا، فقد جاء الرد بأن الخدمة والأمن في القصر من اختصاص القائمين عليه، ولا يسمح لأي أجنبي بالوجود لحماية أي جناح فيه، وتفهّم البروتوكول فقط حضور مصفف الشعر للرئيس، على أن يدخل بتصريح خاص. وحضر 16 خبيرا من أمن الحرس، وأمن الرئاسة، والأمن الخاص، وأمن الدولة، لتفقد الجناح الذي سينزل فيه مبارك، وبعث السفير إلى القاهرة أن دخول هذا الوفد الأمني إلى القصر “مستحيل، وأنه لا يجرؤ” على التقدم بهذا الطلب إلى أمناء القصر.
أما البساط الأحمر، وطوله يمتد حسب نوع الزيارة، من عشرة أمتار إلى 25 مترا أو 50 مترا، فكان ديوان الرئاسة يسأل، قبل الزيارة، للتأكد من وجود “أبوخمسين”.
نصف ثورة لا يمنح الشعور بأمل قريب، فقد شملت استعادة نظام مبارك حتى جغرافيا الأبّهة. وإذا كان هيكل ذكر في كتابه أن تكاليف وجود مبارك في شرم الشيخ بلغت نحو “مليون جنيه بالزيادة يوميا عن المصروفات العادية للرئاسة!!”، فلا أتوقع إعلان تكاليف دعوة خمسة آلاف شخص من 160 دولة إلى “منتدى شباب العالم”، في شرم الشيخ (3 ـ 6 نوفمبر 2018). وستضاف هذه التكاليف السنوية إلى قائمة المسكوت عنه، إلى أن تشتد ريح تكفي لإنهاء التمثيلية، وبدء المحاسبة.