فرنسا تسعى لتأسيس جيش أوروبي يغني عن الولايات المتحدة
أثار انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من عديد الاتفاقيات الدولية، مخاوف حلفائه الأوروبيين من مدى التزام الولايات المتحدة بتعهداتها تجاه شركائها، ما دفعهم إلى التفكير في إيجاد آليات تعاون أكثر استقلالية خاصة في المجال الأمني، فيما عزز تلويح ترامب بالانسحاب من الاتفاقية النووية مع روسيا مخاوف الأوروبيين بشأن أمنهم، ما وفر أرضية خصبة للدفع نحو تأسيس جيش أوروبي موحد.
دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء إلى إنشاء “جيش أوروبي حقيقي” للدفاع عن القارة بوجه قوى مثل روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة، في وقت تخشى فيه واشنطن تعاونا أوروبيا يتجاوز حلف شمال الأطلسي( الناتو).
ورأى ماكرون الذي يدعو منذ وصوله إلى السلطة العام الماضي إلى قوات عسكرية أوروبية مشتركة، أن على أوروبا أن تحد من اعتمادها على القوة الأميركية، ولا سيما بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من اتفاق للحد من الأسلحة النووية وقّع في الثمانينات.
وقال في مقابلة أجرتها معه إذاعة “أوروبا 1”، في سياق أسبوع من المراسم في الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى “علينا أن نحمي أنفسنا تجاه الصين وروسيا، وحتى الولايات المتحدة الأميركية”، مضيفا “حين أرى الرئيس ترامب يعلن انسحابه من اتفاقية كبرى لنزع السلاح أبرمت بعد أزمة الصواريخ في أوروبا في الثمانينات، من يكون الضحية الرئيسية؟ أوروبا وأمنها”.
وأكد “لن نحمي الأوروبيين ما لم نقرر أن يكون لنا جيش أوروبي حقيقي”، متابعا أنه بمواجهة “روسيا عند حدودنا والتي أظهرت أن بإمكانها أن تشكل تهديدا، نحن بحاجة إلى أوروبا تتولى الدفاع عن نفسها بشكل أفضل، بمزيد من السيادية، بدون أن تكتفي بالاعتماد على الولايات المتحدة”.
وأسس الاتحاد الأوروبي صندوقا دفاعيا بعدة مليارات اليوروهات العام الماضي بهدف تطوير قدرات أوروبا العسكرية وجعل القارة أكثر استقلالية على الصعيد الاستراتيجي، كما تزعمت فرنسا جهودا لإنشاء قوة من 9 بلدان تكون قادرة على التحرك سريعا لتنفيذ عمليات عسكرية مشتركة وعمليات إجلاء من مناطق حرب وتقديم الإغاثة عند وقوع كوارث طبيعية.
مبادرة الدفاع الأوروبية أثارت مخاوف أميركية، ما يهدد بالانعكاس سلبا على وحدة حلف شمال الأطلسي
وقال ماكرون في المقابلة “السلام في أوروبا هش وتعرضنا لمحاولات تسلل في الفضاء الإلكتروني وعدة تدخلات في ديمقراطياتنا”، في إشارة واضحة إلى روسيا، محذرا من “قوى متسلطة تعود إلى الظهور وتعيد التسلح عند تخوم أوروبا”.
ويسعى الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز دفاعاته العسكرية والأمنية من خلال العمل على إيجاد صيغ تشاركية أوروبية ترقى بالعمل المشترك إلى مستوى التحديات الأمنية المطروحة على دول الاتحاد، حيث يقود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جهودا حثيثة لتعزيز أمن القارة معولا على دعم ألماني.
ودشنت وزارة الدفاع الفرنسية في يونيو الماضي، قوة عسكرية أوروبية قابلة للانتشار لمواجهة الأزمات خارج نطاق جهود الاتحاد الأوروبي الحالية، ضمن حزمة إصلاحات يقودها الرئيس الفرنسي قوبلت بدعم ألماني وتحفظ أميركي.
وتهدف المبادرة إلى جمع بلدان أوروبية تتمتع بقدرات عسكرية ورغبة سياسية للتعاون في تخطيط وتنفيذ تحليلات مشتركة للأزمات الطارئة والتصدي لها على وجه السرعة.
وقالت مصادر دبلوماسية إن القوة “لن تعمل داخل الاتحاد الأوروبي وستسمح لدول من خارجه مثل بريطانيا بأن تكون جزءا منها”.
وذكرت ذات المصادر أن هدف المشروع هو التكهن بالأزمات المستقبلية سواء كانت عسكرية أو إنسانية مثل العواصف التي وقعت مؤخرا في الكاريبي وتجنب مواقف تضطر فيها دولة واحدة للتدخل بمفردها كما فعلت فرنسا في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى. وأبدت ألمانيا، مساندتها للفكرة في ضوء الحاجة إلى تحسين التعاون الأوروبي في مواجهة الأزمات، رغم تاريخها في مقاومة أي مهام عسكرية تنطوي على استخدام القوة.
وتعود إمكانية الاتفاق على تعاون منظم دائم بين دول الاتحاد الأوروبي إلى معاهدة لشبونة الموقعة سنة 2009، حيث لم يتمكن الأوروبيون من تفعيل الاتفاق بسبب معارضة بريطانيا للمقترح.
ولا يشارك في هذا التعاون كل من الدنمارك وبريطانيا ومالطا، فالدنمارك لا تشارك عادة في السياسة الأمنية والدفاعية الأوروبية المشتركة، وبريطانيا تعتزم الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وأثارت مبادرة الدفاع الأوروبية مخاوف أميركية، ما يهدد بالانعكاس سلبا على وحدة حلف شمال الأطلسي، في وقت تحاول الولايات المتحدة دفع شركائها الأوروبيين إلى الترفيع في نفقات الدفاع المخصصة للحلف.
وحذر الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ من إغلاق الأسواق العسكرية الأوروبية أمام الولايات المتحدة والدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مذكرا الحلفاء الأوروبيين بحدود مبادرتهم الدفاعية.
وقال ستولتنبرغ إن “مبادرة الدفاع الأوروبية إن كانت مصممة بشكل جيد، يمكن أن تساهم في توزيع عادل للأعباء”، حيث يخشى الأميركيون، بصورة خاصة، إغلاق أسواق الدفاع في دول الاتحاد الأوروبي أمام الشركات الأميركية لصالح الشركات الأوروبية.
وأضاف “يجب ألا يصبح الاتحاد الأوروبي بديلا لما يفعله الحلف”، مشيرا إلى أنه “لا معنى لدخول الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي في منافسة”، ردا على ما يبدو على المخاوف التي أعرب عنها وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بشأن مبادرة الدفاع الأوروبي الموحد.
وأقر الأمين العام للحلف بوجود “خلافات في وجهات النظر” لكنه نفى أن يكون هناك قصور في الثقة بين الأميركيين والأوروبيين، متابعا “إننا بحاجة إلى المزيد من الأموال والقدرات والمساهمات”، حيث تعهدت دول الحلف بزيادة إنفاقها العسكري ليصل إلى 2 بالمئة من إجمالي ناتجها الداخلي بحلول 2024. وقالت مسؤولة الأمن الدولي لدى وزارة الدفاع الأميركية كيتي ويلبارغر “ندعم المبادرة الأوروبية شرط أن تكون مكملة ولا تنتقص من نشاطات وحاجات الحلف الأطلسي”، مضيفة “لا نريد أن ينتقص الاتحاد الأوروبي من وسائل الحلف الأطلسي”.
وتأتي المخاوف الأميركية في وقت يعتزم فيه الجيش الألماني تأسيس مركز قيادي جديد لحلف شمال الأطلسي لإسراع عمليات نقل القوات والعتاد.
ويرى مراقبون أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى تأسيس دفاع أوروبي مشترك باتخاذ خطوات تدريجية، مثلما تّم تأسيس الاتحاد بعد إجراءات بسيطة حول التجارة والتعاون الاقتصادي انطلقت مند أواخر خمسينات القرن الماضي.