بداية التفاف أوروبي على ميثاق الهجرة الأممي

لم تتأخر أولى نتائج الانتخابات الجزئية في ولاية هيسن الألمانية طويلا، فمع إعلان المستشارة أنجيلا ميركل انسحابها المنتظر من قيادة الحزب وعدم الترشح لولاية جديدة، جاءت الأنباء متسارعة في أوروبا لتمنح الشق المناوئ للانفتاح دفعة قوية.

التحليلات داخل ألمانيا وحتى الاتحاد الأوروبي تذهب إلى اعتبار النتائج الانتخابية الأخيرة التي أكّدت توهج اليمين، بمثابة الهزيمة الجديدة للجبهة الليبرالية الصديقة للهجرة والجوار الأوروبي، وهي هزيمة قد تمهد لسقوط جديد أكثر درامية لهذه القوى بمناسبة انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو المقبل.

قد تؤشر تلك الانتخابات في خطوة لاحقة على نهاية الائتلاف الكبير في ألمانيا بقيادة الحزب الديمقراطي المسيحي، ما يعني نهاية حقبة سياسية ستكون لها بلا شك تداعياتها داخل التكتل الأوروبي وفي علاقته بجيرانه.

لكن هذه التداعيات بدأت تطل برأسها بالفعل، في وقت أصبحت فيه الحكومات اليمينية أكثر جرأة في امتلاك زمام المبادرة. فبعد إعلان المجر التحفظ منذ البداية عن الانضمام إلى ميثاق الأمم المتحدة للهجرة المزمع توقيعه في مراكش في ديسمبر، جاء الدور على النمسا مؤخرا لتحذو حذو جارتها. وفي الواقع لم يكن هذا الموقف مستغربا من التحالف اليميني للحكومة النمساوية، الذي يسعى ليس فقط إلى تشديد قيود الهجرة بل أيضا إلى الحد من المزايا القائمة للمهاجرين الجدد، وهي من بين الأهداف الرئيسية التي أعلنت عنها النمسا منذ استلامها للرئاسة الدورية للاتحاد.

بالنسبة للجبهة اليمينية في أوروبا وبعد أداء انتخابي تاريخي في 2017، فإن السقوط الانتخابي المستمر للتحالف المسيحي في ألمانيا يعد علامة إيجابية على أن الأمور تسير في المسار السليم وتتوافق مع اتجاهات الرأي العام ومزاج المواطنين الأوروبيين بشأن ملف الهجرة.

دفع هذا بحزب البديل من أجل ألمانيا الشعبوي إلى حد المطالبة بانسحاب ألمانيا من الميثاق الأممي للهجرة أسوة بالنمسا والمجر، وربما بولندا التي لوّحت حكومتها اليمينية باتخاذ الخطوة ذاتها.

ولا يبعث في الواقع هذا التململ الأوروبي برسالة إيجابية إلى العالم ولا سيما الفضاء المتوسطي والأفريقي، الشريك الاقتصادي والتجاري الوثيق للاتحاد، خصوصا بعد إعلان الولايات المتحدة كذلك انسحابها من الميثاق الذي يرتب لوضع إطار للهجرة الآمنة والمنظمة والمنتظمة.

وعلى الرغم من أن الميثاق ليس ملزما ولا يتدخل في القرارات السيادية للدول بشأن تحديد سياسات الهجرة، إلا أن الرسالة الواضحة الآن أن الاتحاد الأوروبي لا يركز جهوده العلنية على كبح مسارات الهجرة غير الشرعية فقط، وإنما يسعى عمليا إلى تحويل الاتحاد إلى “قلعة أوروبية” بفرض قيود إضافية أيضا على الهجرة النظامية والاقتصادية.

تتعلل الجبهة اليمينية، وهي محدودة العدد حتى الآن، برفض الاتفاق كونه يمهد لتوطين اللاجئين الفارين من الفقر ويخلط بين طلب الحماية وهجرة العمالة، كما يلغي في بعض البنود الحد الفاصل بين الهجرة الشرعية وغير الشرعية. لكن في مطلق الأحوال فإن هذه الجبهة لا تقدّم حلولا لتيسير حرية التنقل للأشخاص مثلما هم الحال معها بالنسبة للسلع.

مثلا، هناك ضغوط مستمرة من الاتحاد الأوروبي لإرساء اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق مع تونس، امتدادا لاتفاق الشراكة الموقع منذ عام 1995. ومع أن هذا الاتفاق الذي يمهد لرفع تدريجي لكل القوانين الحمائية والقيود الجمركية وفتح الأسواق، يمثل مقامرة لتونس إلا أنه لا يتضمن بنودا صريحة حول الهجرة المنظمة والمنتظمة أو حرية التنقل لبلد يرقى إلى مرتبة “الشريك المميز”.

بدل ذلك تفضّل دول التكتل الأوروبي صياغة اتفاقات هجرة منفردة مع تونس وباقي دول جنوب المتوسط ودول الساحل وجنوب الصحراء، تقوم في جوهرها على التجاوب مع سياسات الترحيل الممنهجة وتقديم حوافز مالية وتجهيزات أمنية لهذه الدول من أجل التحكم في مسارات الهجرة غير الشرعية القادمة من أفريقيا نحو البحر المتوسط.من الواضح أن هذه السياسات التي تتبناها أغلب دول التكتل الأوروبي تتعارض مع الأهداف المعلنة لميثاق مراكش للهجرة الأممي، والذي يسعى إلى المساعدة في تنظيم اللجوء وإمكانات الهجرة الشرعية، كعنصر مكافح للهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى تعزيز حقوق المهاجرين.

مع ذلك فإن تضارب السياسات لم يقف حائلا أمام تدفق المهاجرين المستمر، عبر مسارات متنوعة، برغم نجاح دول الاتحاد في تقليص أعدادهم على مدار السنوات التي أعقبت موجات الهجرة الجماعية في 2015، مقابل زيادة أعداد الموتى في البحر.

وبرأي وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة “طالما أن أوروبا تعتمد المقاربة الأمنية، فإن الهجرة ستزداد. وما دامت أوروبا تسعى إلى التحول إلى قلعة، فستكون هناك وسائل أخرى للاحتيال على المراقبة”.

 

 

 

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: