الاسلام التونسي ” لايت”
ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة” مثل شعبي تحتفظ به الذاكرة التونسية يدلّ على علاقة العباد بمعبودهم.
وميمونة هذه، كمعظم الجدات اللاتي لم يذهبن إلى المدرسة يوما، لها تصورها الخاص في عبادة ربها، كانت تصلي “صلاة خاطئة”، لكن بسريرة نقية، ولم تفلح كل المحاولات في تعليمها طريقة “الصلاة الصحيحة”، حتى قيل فيها إن الله يعرفها.
لقد أكد تقرير حول “الحالة المدنية وحرية الضمير” في تونس نشر في مايو 2015 أن 70 بالمئة من التونسيين يعتبرون أنفسهم “متدينين”. لكن رغم عمق ارتباط التونسي بدينه تظهر نتائج نفس التقرير أن غالبية التونسيين يفضلون فصل الدين عن السياسة لاعتقادهم أن الدين شأن خاص بين العبد وربه وهو ترجمة فعلية للمثل الشعبي القديم وللبند الأول من الدستور أيضا.
نص الفصل الأول من دستور 1959 على أن “تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. وبقي هذا الفصل على حاله، في دستور عام 2014.
لقد استأثر هذا البند سنة 1957، كما في أعوام ما بعد ثورة 14 يناير 2011 بنقاشات مطولة، وقد رفض الزعيم الحبيب بورقيبة أن توضع في الدستور صيغة “تونس دولة إسلامية”.
لقد كان الوعي باختلاف الصيغتين “دولة إسلامية” و”دولة دينها الإسلام” حاضرا بقوة من ناحية أن الصيغة الأولى تفيد تقيد الدولة بالإسلام و“تعاليمه”، على خلاف الصيغة الثانية المفتوحة التي تتحمل تفسيرات كثيرة.
يولي التونسيون أهمية قصوى للمناسبات الدينية، حتى تلك التي يحرم السلفيون وغيرهم الاحتفال بها. ولا تفرّق الاحتفالات بين “عامة” أو “نخبة”.
ويجمع التونسيون في تدينهم بين “دين شعبي” يتمثل في التصورات الدينية الراجعة إلى فئات اجتماعية اعتبرت ممثلة لعامة الشعب، وبين “دين رسمي” يتجلى في جملة العقائد والطقوس والشعائر المنظمة والمقننة بواسطة تقاليد معرفية دينية أو من خلال جهاز ديني رسمي وهو ما كوّن ما يسمى بـ”الإسلام التونسي”.
و”الإسلام التونسي”، يعرّفه أنصاره بأنه ذلك الإسلام المتسامح المتفتح على الآخر والذي يقبل الاختلاف والتعددية. وهناك أيضا من يعرّفه بأنّه ذلك الإسلام المستمد من اجتهادات علماء الزيتونة والمذهب المالكي والذي هو في نظرهم أكثر انفتاحا من الإسلام السلفي.
وبعد الثورة التونسية، ازدادت أهمية “الإسلام التونسي” مع تكثف الصراعات السياسية المصاغة بمفردات نمط آخر من الإسلام وهو “الإسلام السياسي”، الذي تقوده نخب إخوانية وسلفية تهدف أساسا إلى “أسلمة” المجتمع.
ولم يدّخر المجتمع التونسي جهدا في مقاومة مخاطر مدّ “الأسلمة”. وقد لعب “الإسلام التونسي” دورا مركزيا في تذويب خلافات المجتمع الفكرية العميقة.
لكن رغم ذلك، يؤكد باحثون أنه ليس هناك إسلام تونسي، إنما هناك إسلام واحد يشتمل على مسائل قطعية ثابتة وأخرى خلافية ظنيّة احتكم فيها أهل الملل للاجتهاد، لكن بضوابط محددة فمنهم من انتهج منحى التيسير ومنهم من اختار الشدّة.
وصدق أحد المدونين حين قال إنّه لو طبّق اليوم المذهب المالكي أو تفسيرات الشيوخ الزيتونيين بحذافيرها لقطعت عديد الرؤوس والأيدي والأرجل.
إن الصراع الفكري لا يتمحور حول “الإسلام لايت”، بل إن الصراع الأساسي يدور اليوم حول مسألة جوهرية وهي إمكانية تجاوز النصوص الدينية والذهاب بعيدا في صياغة إسلام تونسي مئة بالمئة يصل حد توريث الأنثى مثل الذكر.
هنا يكمن الصراع الحقيقي الذي سيحدد ملامح المجتمع التونسي خلال السنوات القادمة وهو ما أدركه في وقت مبكر جدّا المصلح الطاهر الحداد في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، الكتاب الذي يعتبر أب مجلة الأحوال الشخصية الثورية وذلك ما يفسّر الهجمة الشرسة التي تعرّض لها من علماء الزيتونة، نفس العلماء الذين تحولوا اليوم رموزا للحرية والحداثة