استقلالية المرأة العزباء في المجهر الاجتماعي
تعيش جل المجتمعات العربية نوعا من الخوف والرهبة عند تناول بعض المواضيع بالدرس أو الحوار حولها لاعتبارها من “المحظورات” لعلاقتها بالمرأة بالخصوص، على اعتبار أن هذه المجتمعات ورغم ما شهدته من تطورات على جميع الأصعدة والمجالات إلا أنها لا تزال تضع المرأة في المناطق المظلمة والمغلقة دون المسّ بهذا الانغلاق المفتعل.
من هذه المواضيع مناقشة فكرة استقلالية المرأة عن محيطها الأسري وخاصة العزباء، حين تتخذ قرارا بالسكن بمفردها بعيدة عن العائلة ومحيطها وربما محيطها الاجتماعي عموما.
هناك مفارقة واضحة في الأمر بخصوص تقييم سكن المرأة العزباء بمفردها، حيث لا يثير الموضوع أيّ ردود اجتماعية سلبية إذا تعلق الأمر بانتقال المرأة/ الفتاة من موطنها الأصلي أين تستقر عائلتها إلى مكان آخر لأجل الدراسة أو العمل، فإما أن تشترك في السكن مع أخريات من زملاء الدراسة أو الشغل لنفس المعطى أو الهدف، وهذا عادة ما يفضله أولياء الأمور، وإما السكن منفردة لأسباب ذاتية وشخصية، لعلّ أهمها عدم التعوّد على العيش الجماعي خارج الإطار الأسري. وتقوم الدنيا ولا تقعد إذا خرجت المرأة العزباء من محيطها الأسري ومن بيتها العائلي لأنها تريد استقلاليتها أو تبحث عن ممارسة حريتها بعيدا عن القيود العائلية دون موجب دراسي أو مهني يراه الناس مبررا منطقيا وحيدا لفعل ذلك.
في كلا الحالتين يتجلى الانطباع بأن المرأة “تابعة” دائما، إما لسلطة الوالدين وبقية أفراد العائلة كالإخوة والأخوال والأعمام.. وإما لسلطة الزوج في حال تزوجت. أمّا وهي عزباء فلا حق لها -وفق المنظور الاجتماعي الذكوري- مغادرة “الحضن” العائلي، ليس خوفا عليها في شخصها وفي ذاتها بل خوفا على عرضها وشرفها بالمفهوم الأخلاقي والقيمي السائد، بل بأكثر دقة ووضوح خوفا على عرض الأسرة من أن يُخدش وكأن المرأة لا معنى لها في ذاتها ولكنها يجب أن تكون مرآة ناصعة البياض تعكس الأسرة بأسرها.
في الأيام الأخيرة كنت أتصفح ما ينشر بإحدى وسائل التواصل الاجتماعي وشدّ انتباهي خبر لحادثة وقعت في الشمال السوري؛ مسلّح من مسلّحي المعارضة السورية يصوّب فوهة بندقيته نحو فتاة ملتصقة بالحائط، ومن ورائه أحد رفاقه يناديه “اغسل عارك”، هذه الفتاة هي أخته بحسب الرواية، أطلق عليها وابلا من الرصاص فأرداها قتيلة وسط تهليل الحاضرين. هذه الحادثة أو بالأحرى الجريمة تنضوي تحت ما يسمى بـ”جرائم الشرف” وهي منتشرة في بعض بلدان الشرق الأوسط كسوريا واليمن.. فبمجرّد الشبهة يقع القتل!
استعرضت هذه الحادثة ببشاعتها للدلالة والبرهنة على أن وضع المرأة العزباء متردّ إلى درجة لا توصف مع الاختلاف طبعا في طبيعة المجتمعات، فمنها ما يكون الأمر فيها أقل حدّة ولا يصل إلى ارتكاب جرائم الشرف أو الختان. فالمجتمع الذي لا يزال يرتهن إلى مبدأ الذكورة والقوامة والرجولة لا يزال يضطهد المرأة بطرق ونسب مختلفة.
أليس من حق المرأة التي لم تتزوج بعد أن تحاول أن تستقل بذاتها وتنعم بحريتها دون وصاية من الأهل والأقارب؟ لماذا يقرن المجتمع هذه الاستقلالية بسوء الأخلاق والخروج عن القيم النبيلة السائدة؟
إن بحث المرأة عن الابتعاد عن أسرتها وهي لم تتزوج بعد، له دواع نفسية تتعمّق يوما بعد يوم حين تشعر بأن لا خيار لديها ولا قرار تتخذه بمفردها يتعلق بحياتها وطموحاتها وأهدافها، فتتعمق لديها الأحاسيس المظلمة والسلبية بأنها سجينة قرارات الآخرين، كما تحسّ بأنها مسلوبة الإرادة وغير قادرة على التصرف بحرية حتى في أخص خصوصياتها كالملابس أو المال أو اختيار الأصدقاء والصديقات أو القيام بزيارات عائلية.
أما على المستوى الاجتماعي فالفتاة تجد نفسها في بعض الأحيان فاقدة السند وهي بين أهلها، فعندما تغيب الأم عن الوجود ويتزوج الأب وتحدث المفاضلة بينها وبين إخوتها غير الأشقاء وتتفاقم الخلافات، تضطرّ إلى هجر المنزل العائلي في اتجاه بيت أحد الأقارب كضيفة ولكنها تكتشف في ما بعد أن ضيافتها قد ثقلت، فتتخذ قرارا جريئا باكتراء منزل صغير تؤثث فيه أحلامها وترتب شتات نفسها في اتجاه الاستقرار دون نية القطيعة النهائية مع الأهل وخاصة الأب الذي يرضى بالأمر الواقع وينحاز بطريقة ما إلى صف زوجته الجديدة وأبنائها، فتحس الفتاة بأن أباها خذلها وأنها فقدت سنده كما فقدت سند أمها.
وقد تجد مؤازرة حقيقية وتشجيعا صريحا من بعض فروع عائلتها كالجدّ أو الجدّة أو الأعمام أو الأخوال، ولكن الأمر يسير بتحفظ كبير كما أسلفنا القول، لأن المجتمع ورغم اقتناعه أحيانا بأن فتاة أو امرأة ما، بسبب عدم زواجها أو ترمّلها أو طلاقها، لا يمكنها مواصلة عيشها في حمى أسرتها، إلا أن النظرة الدونية ترافق تواجدها في منزل بمفردها.
حان الوقت لنقارب المسألة بعقلانية وثقة يجب ألا تهتزّ في المرأة، وقناعة بأنها راشدة وقادرة على قيادة نفسها دون تبعية لأيّ أحد.