ميلاد رواية الإرهاب الإسلاموي في أوروبا

إلى زمن غير بعيد، أي قبل نصف قرن تقريبا، شغل الرواية المغاربية المكتوبة بالفرنسية، وعلى وجه الخصوص الرواية الجزائرية، موضوع واحد ومركزي والذي حوله أقامت مجدها وهو موضوع “إشكالية المغترب”،

وقد حللت كثير من النصوص السردية المغاربية المكتوبة بالفرنسية ما تفرزه “الغربة” جراء التهميش الاقتصادي والعزلة الاجتماعية والفراغ الروحي الثقافي من أمراض سيكولوجية وجنسية على المهاجر الذي يغرق في يوميات حياة تلامس أقصى درجات العزلة (على حد تعبير الروائي الطاهر بن جلون).

وقد كتب عن مشكلة “أمراض الغربة” جميع الروائيين المغاربيين دون استثناء، من كتاب الجيل الأول والثاني، من محمد ديب ومولود فرعون ومولود معمري وإدريس الشرايبي ومالك حداد وآسيا جبار والطاهر بن جلون ورشيد بوجدرة… لقد ظهرت روايات كثيرة بالفرنسية ما بين 1950 و2000 تجاوز عددها ثلاثمئة رواية، بغض النظر عن مستواها الجمالي، من رواية السيرة الذاتية إلى رواية اليومي إلى الرواية السيكولوجية إلى الرواية الأيديولوجية إلى الرواية الفلسفية، كلها حاولت محاصرة فكرة “الغربة”.

ثم شيئا فشيئا، خاصة مع جيل الروائي عزوز بقاق انتقلت الرواية المغاربية ذات التعبير الفرنسي إلى مقاربة ظاهرة الصراع الحضاري والثقافي والذي سببه التهميش وعدم السماح للجيل الجديد من أبناء وأحفاد الجيل الأول من المهاجرين بالاندماج الاجتماعي والاقتصادي والمهني والسياسي، وظهر الحديث عن العنصرية المؤسساتية بعد أن كان الحديث قبل ذلك مع الجيل الأول عن الإقصاء الاجتماعي.

وموازاة مع خطاب الروائي عن الإقصاء المؤسساتي الممنهج، ظهرت الجالية المغاربية بعيدة أو مبعدة عن ممارسة السياسة بمفهومها الاحترافي، ولم تجلس أسماء مغاربية في الصفوف الأولى ولا الثانية في الأحزاب الفاعلة في الشأن الأوروبي إلا في السنوات المتأخرة جدا.

ولعل هذا التواجد الجديد للجيل الثالث والرابع من أبناء الجالية المغاربية في الصفوف الأمامية للأحزاب الوازنة وهذا التموقع في بعض مراكز إدارة الشأن في أوروبا وفرنسا وبلجيكا بالأساس مرده أن هناك مراجعات حادة حدثت في البنية الذهنية للمهاجر، فلم يعد المغترب من الجيل الثالث والرابع ذلك الذي يسافر لجمع قليل من المال أملا في العودة ذات يوم إلى البلد لبناء بيت يأويه ويستر حاله وإلى تراب يدفن فيه، بل أصبح أبناء هذا الجيل الجديد يؤمنون الإيمان القاطع بأن هذه الأرض هي مقامهم وأن هذا البلد هو بلدهم على الرغم من كل التوترات.

وبالتوازي مع عملية التموقع الجديد السيكو- سياسي لهذا الجيل سُجلت العلامات الأولى لوصول أيديولوجيا الإرهاب إلى المجتمع الأوروبي والتي ولدت من رحم الحلقات الأولى للفكر الوهابي والإخواني في ثمانينات القرن الماضي تلك التي تأسست ونمت داخل مساجد وفضاءات العبادة ومدارس قرآنية والتي مثلت محاضن للتفريخ ومصانع لتخريج الدفعات الأولى من الإرهابيين التكفيريين من الجيل الذي ولد وتربى في أوروبا.

وانقلبت علاقة المواطن الأوروبي (الفرنسي أساسا) ذي الأصول المغاربية بثقافته الأولى (ثقافة الأم – الذاكرة)، فمن علاقة نوسطالجيا (لغة، دين، موت، جنس) مع الجيل الأول إلى علاقة توتر جديد، علاقة سلفية، علاقة تبحث عن تبرير العنف ضد الآخر من خلال الدين الأصلي، استدعاء صوت الأب والجد للانتقام والتصفية الجسدية.

كان للعشرية السوداء الدموية التي عاشتها الجزائر (1900-2000) وأيضا لما سمي بـ”الربيع العربي” الظل الكبير في تجذير ثقافة الكراهية بخطاب ديني في أوساط الجيل الجديد من أبناء الجالية المغاربية التي ولدت وتربت وعاشت في أوروبا.

وعلى شاكلة ما يحدث في الضفة الجنوبية للمتوسط، انتقل هذا الجيل من مرحلة استقبال وتمثل الأفكار السلفية المتطرفة إلى ممارسة الإرهاب في شوارع المدن الأوروبية، لم تصبح الجزائر العاصمة أو وهران أو الدار البيضاء أو مراكش أو تونس أو طرابلس أو الإسكندرية أو القاهرة أو دمشق هي فقط ساحة للممارسات لإرهابية، بل باريس ونيس ومرسيليا وبرلين وبروكسل ومدريد وغيرها هي أيضا مسرح لهذه العمليات الدموية، وأصبح من يتولون تنفيذ هذه العمليات الإجرامية مواطنين من هذا البلد من مسلميه وراثة أو من الذين اعتنقوا الإسلام على خلفية التبشير الإسلامي الذي تبنته المساجد وعدد كبير من الدعاة الذين استقروا بمدن أوروبية وحملوا إغراءات مادية ومارسوا عميلة غسيل أدمغة المراهقين الأوروبيين النازلين من أسر كاثوليكية والذين اعتنقوا الإسلام.

وعلى المستوى الأدبي، وأمام هذا الانقلاب الذي حصل في بنية المجتمع الأوروبي والفرنسي بالأساس على المستوى المؤسساتي وأيضا على مستوى البنية السيكولوجية للفرد ذي الأصول المغاربية، فقد انتقل الخطاب الروائي هو الآخر لملاحقة هذا الواقع وتجريب الكتابة عن مواضيع جديدة وأهمها موضوع الإرهاب الذي أصبح الشغل الشاغل للأوروبيين من الناحية الأمنية والأيديولوجية والاقتصادية.

وفي ظل ذلك ستولد “رواية الإرهاب” في الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، كما ستظهر “رواية الإرهاب” أيضا عند الكتاب الفرنسيين أنفسهم من أمثال ميشال ويلبيك ومارك تريديفيس وغيرهما، فمع الأحداث الإرهابية الدموية المروعة في باريس منذ شارلي إيبدو والباطاكلان وسان دوني وفي نيس بفرنسا وأيضا أحداث بروكسيل انتقلت الرواية إلى مساءلة هذا الأمر الخطير. وظهرت الصورة الجديدة للفرنسي ذي الأصول المغاربية، إذ لم يعد المغاربي ذلك الشخص الذي يخاف المجتمع الفرنسي بل أصبح هو الشخص الذي يخيف من حوله.

وتحظى روايات الإرهاب التي يكتبها المغاربيون عن وقائع “التطرف الإسلاموي الدموي” بفضول كبير لدى القراء، وتعرف استقبالا متميزا في الإعلام أيضا، فرواية “خليل” لياسمينة خضرا 2018 أو رواية “2084: نهاية العالم” 2015 لبوعلام صنصال أو رواية “أنا، خالد كلكال” 2017 لسليم باشي وغيرها هي نصوص تؤسس لكتابة جديدة قائمة على سردية تحاول تفكيك ظاهرة “الإرهاب” الإسلاموي الذي يزحف على أوروبا ويهددها كما فعلت النازية من قبل أيام الحرب العالمية الثانية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: