جسد جمال خاشقجي الذي به يُتاجر: عن التفاصيل الملأى بالشياطين
كان من المفترض أو من المتصور أن يمر الحدث؛ لا يهم إن كان قتلاً أم خطفاً أم ضرباً، ففي نظر الفاعلين- القتلة والمستفيدين هو في النهاية حدث، صفحةٌ أخرى تضاف إلى السجلات والأضابير في سبيل تثبيت أركان السلطة. كان من المفترض والمأمول أن لا يعدو كونه “تفصيلةً” أخرى، جملة اعتراضية لا يتوقف الناس أمامها كثيراً، وربما أُريد لها أن توصل رسالةً لمن يهمه الأمر،
لمن يشارك جمال خاشقجي آراءه، أو من قد تسول له نفسه مستقبلاً معارضة النظام (وولي العهد السعودي تحديداً) أن مصيره لن يختلف كثيراً، ولئن كان الأقارب من الأسرة المالكة قد حبسوا وأهينوا، فإن من هم عدا ذلك ودون ذلك “سيختفون”، وستطير رؤوسهم.
حتى لو أثار اختفاء صحافي ضجةً ما، فقد كان من المتوقع أن تتبدد سريعاً بـ”شيك” هنا وإكرامية هناك، ما كان خليقاً بأن يرسخ معاني القوة والنفوذ والمنعة وطول يد النظام في نفوس المعنيين والمقصودين، إن أحداً ليس بعيداً عن أيدينا حتى خارج المملكة. فالسؤال الذي يتغلغل الفعل والتفاصيل هو: ما الذي تساويه رأس جمال خاشقجي؟ أو بالأحرى، ما الذي تساويه رأس؟ فكم من الرؤوس سقطت، وكم تراكم من الضحايا بدون أن يحدث شيء، وليست حرب اليمن الطاحنة التي أزهقت عشرات الآلاف من الأرواح قتلاً وجوعاً ومرضاً ببعيدة، بل قد أدار المجتمع الدولي ظهره مكتفياً بالتعبير عن أسفه وقلقه على الوضع الإنساني، وبعض النصائح الغثة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
بيد أن الأمور لم تمضِ كما أراد لها المخططون، فقد افتُضحت الجريمة، ليس ذلك وحسب، وإنما أثارت طوفاناً عاتياً لم تن أمواجه تتعالى وتتضخم، وكلما تكشفت التفاصيل ازدادت الضجة وصار آلافٌ من الناس حول العالم، لا حديث لهم إلا عن جمال خاشقجي ومقتله، هم الذين لم يكونوا قد سمعوا به حتى الأمس، كما تزداد الأكاذيب من الجانب السعودي في محاولةٍ يائسةٍ متهافتة للتغطية والتملص لا تؤدي إلا إلى تثبيت التهمة مضافاً إليها السخرية الممزوجة بالقرف من انعدام الكفاءة المقترن بتوحشٍ أسطوري. وكلما تكشف المزيد من التفاصيل ازداد الرعب، فالتفاصيل ملأى بالقسوة والتوحش، بانعدام قيمة الإنسان وامتهان جسده، بالدماء. والحقيقة أن هذه البشاعة كلها المتجسدة في جريمة، عملٌ كاشفٌ بامتيازٍ وعمق، عن طبيعة المملكة ومنطقتنا والعالم الأوسع، خاصةً في هذه المرحلة.
من ناحية، وفي ما يخص المملكة، فاللافت أول الأمر هو تطور أو بالأدق تحور الأداء وإلقاء الثقل من المعهود تقليدياً منها، فقد تمت الاستعاضة عن “دبلوماسية دفاتر الشيكات”، حيث يتم تمويل هذا الفصيل أو ذاك وتحقيق المصالح عبر الحروب بالوساطة والشحن الأيديولوجي باستغلال الإسلام السني، وتحديداً المذهب الوهابي الأضيق، تمت الاستعاضة عن ذلك بالتدخل المباشر الفظ والخشونة، ما يمثل انعكاساً مباشراً لعقلية ولي العهد ومفاهيمه وتصوره ورؤاه (إذا جاز استعمال هذه الكلمة الكبيرة) عن مقدرة بلده ومقدراته ومكانه في محيطه والعالم، وطموحه ومكانه هو الشخصي في هذا العالم.
في هذا السياق يتعين علينا ألا ننسى حداثة سنه وقلة خبرته وعلى الأغلب ثقافته، فلديه تصورٌ بدائي للرأسمالية والقدرة الشرائية والنفوذ المالي، وفي كتابه ليس هناك بشرٌ ولا قيم، بل أشياء لها أثمانها، وبالتالي نستطيع أن نرى أن كل دعاوى التحديث (كالسماح للنساء بقيادة السيارات) في ضوئها الحقيقي كخطواتٍ ومحاولاتٍ لتجميل وجه المملكة، الذي لا يخفى على أحدٍ صورتها وانطباعها الذهني لدى العالم الأوسع، كحصن الرجعية الأعتد وقلعة التقاليد المحافظة القامعة للنساء وحقوقهن الأكبر، فالأمر ببساطة لا يعدو كون المقدم لا يعني شيئاً بالنسبة لولي العهد مقابل المكسب المرجو، ولا يعدو (وهو الأهم) ألعاباً كلامية تتشدق بالتطوير والحداثة الخ، مما يعجب الغرب والعالم، تماماً كمناداة عبد الحكيم عامر بالديمقراطية لدى خلافه مع عبد الناصر، والسادات وفقاً لما نُصح به حين أراد الانقضاض على إرث عبد الناصر أيضاً، فللأسف، وكما تثبت لنا صفحات التاريخ المخضبة بالدماء، فإن المبادئ النبيلة والشعارات البراقة دائماً ما ابتُذلت وعُهرت في صراعات السلطة وأروقتها، وأصبحت وسائل وأسلحة وأوراقا، تم تسليعها هي الأخرى؛ لتبقى جريمة القتل تلك معبرةً عن قلب السلطة في المملكة، ونظرتها للناس والعالم. مما يقودنا للجانب الآخر الذي لا يقل أهميةً في نظري ألا وهو القوى الأخرى، إذ فات على مخططي الجريمة أن هناك أطرافاً أخرى، أكبر وأثقل، لها مصالحها أيضاً، مع فارق كونها أكثر قدرةً وحنكةً وخبرةً، وأنها تتصيد الفرص لتستفيد.
تبقى جريمة قتل خاشقجي تلك معبرةً عن قلب السلطة في المملكة السعودية، ونظرتها للناس والعالم
للأسف أقولها، لقد تم “تسليع” جمال خاشقجي وجسده منذ اللحظة الأولى، مذ علم النظام التركي بالجريمة التي تبين أنها مراقبةٌ مرصودة، وتعامل من ثم معها بقلبٍ ميتٍ وعقلٍ متيقظٍ يحسب المصلحة والمكسب، ويقيم السعر.
لم يخطئ تماماً من أمر بتلك العملية البشعة، إذ تصور أن في العالم الرأسمالي لكل شيءٍ ثمن، إلا أنه لم يدرك أن تلك الرأسمالية ذاتها وعالمها الحديث أكثر تعقيداً بكثير، وعلى قواعدها وأسسها نفسها نبتت بنى فوقية لها آلياتها الداخلية، وأن المجتمع أفرز بنى للمقاومة أو الدعم وأنها تتصارع كالصحافة مثلاً، فيحاول رأس المال شراءها فيقاوم بعضها مدعوماً بالمجتمع المدني، ويبيع مسلِماً الآخر وهكذا، فالجوهر رأسمالٌ مستلِب، إلا أن الظواهر والشجرة أكثر فروعاً ملتفة ومعقدة. لذا، فإن التسريبات المتقاطرة للصحافة التي بدأها النظام التركي ليبدو بعيداً نوعاً، كانت بغرض المصلحة البحتة، بدون شكٍ لديّ، إلا أن صحفاً أخرى تشبثت لأسبابها الخاصة التي لم يغلب عليها بالضرورة المصلحة البحتة (وإن لم تخلُ منها)، كـ”الواشنطن بوست” مثلاً التي كان خاشقجي يكتب على صفحاتها، ما أحرج أطرافاً كترامب تهمه مصالحه ومشتريات السلاح كما قال بنفسه، إلا أنه في ذلك الواقع المعقد لم يستطع أن يصرح بأن خاشقجي لا يعنيه في شيء، إنه لا ثمن له، كما أن تلك الواقعة تحرج وتزعج هذه الأنظمة الملأى سجلاتها بالجرائم، إذ أنها مهما حدث لا تستطيع أن تتغاضى وتسمح للسفارات والقنصليات على أراضيها بأن تصبح مذابح وسلخانات وامتداداً لشُعب مخابرات أنظمةٍ تعسة وغبية، خاصةً حين تتم الجريمة بهذه الرعونة وهذا الصلف والوقاحة والبشاعة.
للأسف، وقد يرى البعض في ذلك سوداويةً وتشاؤماً مفرطاً، فإنني أرى أن هذه الضجة والزوبعة ستنتهي مجازاً بجلوس الأطراف المعنية صاحبة المصلحة المباشرة، السعودية وتركيا وأمريكا ومن لا أعلمه من سائر المنتفعين، ممن قد يكون دس أنفه كبريطانيا وفرنسا مثلاً، ليتفقوا على سعر، كم ستدفع المملكة وما الذي ستقدمه ثمناً لرأس خاشقجي وتلك الجريمة لتمر، ومن ستقبل المملكة التضحية به لحفظ ماء الوجه وضمان استقرارها، بما يمنع تكرار الحماقات التي قد تهدد العرش؛ سيفاصلون وعلى رأسهم أردوغان الذي قد يتظاهر بالتأذي البالغ من إهانته وبلده بجريمةٍ كتلك على أراضيه وسيتفقون في النهاية.
تبقى كلمةٌ علينا وعلى منطقتنا، إذ هالني وأحزنني ما قرأته وسمعته من تعليقات البعض، متظاهري التعقل ودعاة الصبر، لما ثبت تورط المملكة إذ طفقوا يدفعون التهمة مذكرين بجرائم الغرب، ليصبح جسد خاشقجي الممزق ليس مجرد سلعةٍ يتاجر بها فحسب وإنما يضاف إلى حوار الطرشان والسجال الأبدي بيننا وبين الغرب الذي يشبه في أحيانٍ كثيرة شجارات الضرائر وكيد النساء، وعوضاً عن التماهي معه كإنسانٍ نُحر غيلةً بوحشيةٍ لا مثيل لها والتمرد على حالنا وعلى تلك الأنظمة ننخرط في صراعاتٍ هويةٍ نهدر فيها كرامتنا وقيمتنا الإنسانية أمامها بعد أن امتهنتنا وشوهتنا وأرضعتنا الذل.