أنظمة لا تصلح ولا تنصلح
انتبه عدد من المعلقين في أمريكا وبريطانيا إلى مفارقة عدم اهتمام الرأي العام الأمريكي، والعالمي عموما، بآلاف المدنيين القتلى وعشرات آلاف الأطفال الجوعى والمرضى في حرب اليمن، في مقابل اهتمامه البالغ بمقتل الصحافي جمال خاشقجي رحمه الله، هذا رغم أن المسؤول عن الأمرين، الحرب العبثية والجريمة الهمجية، جهة واحدة، بل شخص واحد. ولكن رغم أن هذه المفارقة مؤسفة مؤلمة، فإنها لا تعبر عن موقف لاأخلاقي مقصود، وإنما هي تعبير عفوي عن «الانتقائية اللاّإرادية» التي تسم الإدراك العام في تفاعله مع الأحداث المنقولة إعلاميا، خصوصا إذا كانت أحداثا بعيدة جغرافيا أو غير واضحة الدلالة ثقافيا. إذ إن الحروب، التي تستغرق في العادة شهورا أو أعواما، كثيرا ما تثير الاهتمام أول أمرها ثم سرعان ما يسري عليها قانون طاحونة الشىء المعتاد التي تظل تدور وتدور بالنبأ المكرور في نشرات الأخبار كل يوم، بل كل ساعة، حتى تهوي به إلى أسفل درك الرتابة المعطّلة للإدراك والمبلّدة للإحساس. أما المسألة المفردة ذات التفاصيل الملموسة التي تحيل إلى قصة إنسانية محددة بالاسم، فهي أدعى إلى أن يتفاعل معها الجمهور ويتعاطف مع بطلها أو ضحيتها. ولعل أبلغ ما يعبر عن هذه الحقيقة النفسية ـ الاجتماعية هو ذلك القول المنسوب إلى ستالين: مقتل شخص واحد مأساة، أما مقتل الملايين فهو (مجرد) إحصائيات.
وقد أثبت تاريخ الإعلام الجماهيري أن للقصص المفردة قدرة استثنائية على التعبير القوي عن القضايا العامة أو التجارب الجماعية. ولهذا يجنح الإعلام، وكذلك المنظمات الإنسانية، إلى البحث في صلب الكوارث، مثل الحروب والقحط والمجاعات والزلازل والفيضانات الخ، عما يسميه الصحافيون الأنغلوساكسون بـ «القصة»، أي لبّ الحدث أو جوهر الظاهرة كما يتبدّى في تجربة شخص واحد أو أسرة واحدة من ضمن آلاف الضحايا. ذلك أن رواية القصة المفردة بتفاصيلها الشخصية أو العائلية إنما يبث الروح في ما قد لا يكون، لولا ذلك، سوى حدث بارد أو ظاهرة صماء أو معطى إحصائي. ومن أحدث الأمثلة على ذلك قصة الطفل إيلان كردي التي أدت إلى تحريك الجمهور العالمي وتوعيته بالتراجيديا السورية على نحو لم تفعله الأهوال الكثيرة الأخرى التي يسرد وقائعها الإعلام كل يوم.
ولأن القصص الإنسانية الفردية تجسم ظاهرة بأكملها أو تثير اهتماما موازيا، ولو بأثر رجعي، بقضية أكبر وأعم، فإن جريمة اسطنبول قد جعلت الرأي العام العالمي أشدّ وعيا بعبثية الحرب على الأطفال والمدنيين في اليمن، وأحدّ شعورا بسوريالية الوضع الناجم عن تركز كامل السلطات في الرياض في يد شخص كامل الأوصاف «الكاليغولية».
وقد كان لافتا قول ترامب، بشأن جريمة اسطنبول، إن الفعلة إنما صدروا عن «فكرة بالغة السوء من الأساس، ونفذوها تنفيذا رديئا. أما محاولة التستر، أو التمويه، ]أي الرواية الرسمية السعودية التي تقلّبت ألوانا حتى استقرت على نكتة الشجار[ فهي أسوأ ما سجله التاريخ في عمليات التستر على الجرائم (..) إنها قصة فشل ذريع». فقد أثبت هذا التصريح، أولا، أن ترامب كان يود لو أن العملية تمت بالاحترافية الكفيلة بمنع مجرد إمكانية اندلاع فضيحة من هذا العيار الزلزالي (وهو ما عبرت عنه صحيفة إسرائيلية بوضوح عندما قالت إنه كان على السعوديين أن يتعلموا من الموساد كيفية تنفيذ الاغتيالات). كما أنه تضمن، ثانيا، تذكيرا بأن الكذب فن، وأن أبسط بسائط هذا الفن أن يكون القول قابلا لقدر من التصديق. أما أن تكون نسبة القابلية للتصديق صفرا بالمائة (!) فلا لوم على ترامب بعدها أن يقول لوول ستريت جورنال: «ولي العهد يدير كل شيء هناك، ومن المحتمل أن يكون هو المسؤول» عن الجريمة.
ما دلالة كل هذا؟ كان آخر ما كتبه الصحافي المغدور يتعلق بانعدام حرية التعبير. غير أن حصر الأمر في وجوب إطلاق حرية التعبير إنما ينطلق من فرضية قابلية النظام السعودي للإصلاح. بينما الحقيقة أنه من جنس الأنظمة التي يصدق عليها ما حكم به منصف المرزوقي، قبل ربع قرن، على نظام بن علي: «لا يصلح ولا ينصلح». انسداد تام ضد أي إمكان للصلاح. إنها موهبة! والموهوب محسود