التطهير العسكري في الجزائر.. إستراتيجية تقي الحكومة الانقلابات
لطالما اعتبر كبار قادة الجيش على مدى طويل “صانع الملوك” في الجزائر، غير أن عمليات التطهير بالمؤسسة العسكرية وحملة الإقالات المتتالية لأهم كوادره تطرح العديد من الأسئلة. ويرى مراقبون أنها تأتي ضمن ترتيب المشهد السياسي بالبلد مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في 2019 وضمن صراع الأجنحة داخل أروقة الحكم، مع شكوك تحوم حول ترشح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة (81 عاما) لولاية خامسة، إذ تسعى الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس المريض عبر عملية التطهير ضمان أقصى قدر من الولاء من الجيش قبل السباق الرئاسي.
أدت سلسلة من التعديلات الجذرية داخل المؤسسة العسكرية إلى قلب قيادة الجهاز الأمني القوي في الجزائر، حيث مست عمليات إعادة توزيع مهام الموظفين بالمؤسسة أصحاب المراتب العليا في الجيش الجزائري والشرطة وقوات الأمن.
ومنذ يونيو الماضي، أجرى الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة تغييرات غير مسبوقة في قيادة الجيش، شملت قادة نواح وقائدي الشرطة والدرك الوطني ومدير أمن الجيش (أقوى جهاز مخابرات في البلاد).
وحسبما ذكر مصدران أمنيان في العاصمة الجزائرية، فقد تم في بداية أكتوبر الجاري توقيف خمسة جنرالات جزائريين بعد إقالتهم مؤخرا من مهام عليا، وذلك لشبهات فساد مفترض.
وأوضحت المصادر أن الجنرالات مناد نوبا القائد السابق للدرك الوطني وحبيب شنتوف وسعيد باي وعبدالرزاق الشريف، وهم قادة سابقون لمناطق عسكرية، وبوجمعة بودوار المدير السابق للمصالح المالية في وزارة الدفاع، مثلوا أمام قاضي تحقيق في المحكمة العسكرية بالبليدة التي تقع على بعد 50 كلم جنوب العاصمة. وإثر مثولهم قرر القضاء وضعهم قيد الإيقاف التحفظي.
وفسّرت وزارة الدفاع تلك التغييرات على أنها “تكريس لمبدأ التداول” في الوظائف العليا للجيش، فيما أثارت وسائل إعلام محلية تساؤلات حول سبب تزامنها مع بداية العد التنازلي لانتخابات الرئاسة المقررة ربيع 2019، خاصة أن الإقالات المتتالية بالمؤسسة العسكرية الجزائرية وإزاحة كوادر مهمة عن السلطة بقيت في كنف الغموض، مع العلم أنه لم يسبق لها مثيل خلال ولاية عبدالعزيز بوتفليقة التي امتدت لتسعة عشر عاما، لكن طبيعتها وتوقيتها يعطيان بعض الإشارات عن نواياها الحقيقية إذ تأتي في إطار صراع محموم على السلطة.
وتبقى طريقة العمل السياسي الداخلي غامضة بالبلد، حيث من الصعب معرفة ما يحدث بالضبط في العاصمة الجزائرية بسبب التكتم والغموض المحيطين بالمشهد السياسي بالبلد في ظل مرض الرئيس ووضعه الصحي الذي مازال محل تكهنات منذ أن تعرض عبدالعزيز بوتفليقة (81 عاما) لجلطة دماغية في 2013 وبات ظهوره العلني نادرا من ذلك الوقت.
لكن حسبما ذكره مركز الدراسات الإستراتيجية والأمنية الأميركي “ستراتفور”، فإن التفاصيل المرتبطة بهذه الموجة من عمليات إعادة ترتيب المؤسسة العسكرية تشير إلى مجهود مشترك بين الجيش والرئاسة للحفاظ على السلطة.
نفوذ الجيش
بدأت التغييرات في القيادة العسكرية بجدية في يونيو الماضي، عندما طُرد عبدالغني هامل المدير العام لقوات الشرطة الوطنية الجزائرية على إثر عملية مشتركة بين الجيش والشرطة نتج عنها حجز حمولة كبيرة من المخدرات المحظورة في عرض السواحل الجزائرية.
وأدت عملية التهريب الفاشلة هذه إلى توقعات الإعلام الجزائري بتورط أفراد من أجهزة الشرطة في عمليات فساد من خلال تهريب المخدرات. ومنذ ذلك الوقت تم عزل أكثر من اثني عشر مسؤول عسكري وأمني من أعلى سلطة مع تبرير هذه التحركات باعتبارها تندرج في إطار جهود موسعة لمكافحة الفساد.
وتم التخلي في غشت الماضي عن ستة قادة عسكريين جهويين بالتوازي مع خمسة من القادة الجهويين للجندرمة. وفي شتنبر تم عزل عدة مسؤولين آخرين من الجندرمة والجيش من مناصبهم وإحالتهم إلى محاكم عسكرية للتحقيق معهم في تهم فساد مالي.
ولم يبق غير ثلاثة فقط من جملة عدد يتراوح بين اثني عشر إلى أربعة وعشرين فردا من أكبر الجنرالات من الفترة السابقة لبوتفليقة في الجيش، ومن ضمنهم رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح، وهو الرجل المسؤول علنا عن التحريض على الإقالات في المؤسسة العسكرية.
وتمثل الدولة والجيش والحزب وخاصة حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري الحاكم ثلاثي تقاسم السلطة التقليدي في الجزائر، وبشكل أكبر من مصر المجاورة حيث يمتلك الجيش النفوذ على الاقتصاد وحكومة بلاده، ويعتبر الجيش الجزائري ركيزة كل وظائف الحكومة. ولأن الجيش الشعبي الوطني الجزائري خلف القوات المسلحة الثورية التي كسبت معركة الجزائر الدامية من أجل الاستقلال عن فرنسا، يضعه الجزائريون في منزلة بطولية، ثم جاء الانتصار على المتطرفين في الحرب الأهلية الجزائرية الدامية التي تعرف بالعشرية السوداء في تسعينات القرن الماضي ليعزز صورة الجيش باعتباره الحامي الأساسي للجزائر شعبا وأمنا.
وزادت الخدمة العسكرية الإجبارية لكل الذكور في تدعيم شعبية القوات المسلحة في الجزائر حيث تعتبر الخدمة العسكرية مؤشرا مهما للوطنية، وبذلك توفر تجربة ثقافية تتقاسمها كل العائلات والأجيال، الغنية والفقيرة منها على حد السواء. ويسبب الطابع الإلزامي للخدمة العسكرية جدالا أقل في الجزائر مقارنة بدول أخرى مرده ضعف نسبي لقطاعها الخاص على الأقل عند مقارنته بالبيروقراطية الضخمة للقطاع العمومي في البلاد.
لكن النخبة العسكرية التي تقود البلاد ترى أن مكانتها مهمة وتتجاوز الجنود العاديين، وباتت نظرتهم الاستعلائية هذه محل تذمر وسخط المواطن الجزائري. وعمدا يأتي الجزء الأكبر من تأثير الجيش في السياسة من خلف الستار، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الحفاظ على تواجده بعيدا عن الانتقادات، غير أن المراقبين يلاحظون أن الجزائريين لا يستهينون بفكرة إدارة سلطة غير مرئية لشؤون بلادهم من قبل الجيش وعلى وعي بمساعي هذه المؤسسة للحفاظ على نفوذها.
الجيش بصدد التخلص من بعض الجنرالات الأكثر طموحا الذين تحدّوا شخصيا أحمد قايد صالح أو الذين يقفون في صف سعيد بوتفليقة، الأخ الأصغر للرئيس الذي يحتل دورا مهما خلف الكواليس في حكومة أخيه
ولطالما حاول الجيش بناء صورة له كحكم محايد للمشهد السياسي في الجزائر، فضلا عن صورة كونه الحامي الأخير للبلاد. وهذا أمر ممكن في الجزائر حيث لا توجد قيود للسلطة الداخلية على الجيش.
وفي الحقيقة يحتل الجيش موقعا مريحا بعيدا عن السياسة الحزبية ويحظى بالاحترام كما تتوجس منه الحكومة المدنية. وأدى تعليق صدر مؤخرا عن زعيم أهم حزب إسلامي (حركة المجتمع للسلام) يدعو فيه رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح لحل بعض الفوضى السياسية الحالية في البلاد إلى ردة فعل عكسية من جماعات معارضة ومن الجيش أيضا.
وفي رفضه الاستجابة للطلب أكد قايد صالح استقلالية الجيش عن العمل الحكومي رغم قوته. وقال في رده “الجيش يعرف حدوده ومهامه الدستورية، ولذلك لا يمكنه أبدا أن يتورط في المشاحنات بين الأحزاب والسياسيين”. وتعكس هذه الملاحظات حقيقة أنه بينما ليست لقيادة الجيش أي نية للتخلي عن سلطتها عميقة الجذور، لا تريد أن تجعل نفسها هدفا مرئيا للسياسة الحزبية وتحاول النأي بنفسها عن التجاذبات الحزبية لتبدو في موقع أكثر حيادا وقوة أمام الرأي العام الجزائري.
أسباب الإقالات
أحد الأسباب المنطقية وراء التعديلات الأخيرة بالمؤسسة العسكرية بالجزائر، هو أن الدائرة الضيقة لبوتفليقة قامت بعملية التطهير من أجل ضمان أقصى قدر من الولاء من الجيش قبل الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، في حال قرر بوتفليقة البالغ من العمر 81 عاما الترشح للانتخابات لفترة خامسة غير مسبوقة، وهو قرار يولّد مشاعر مزدوجة داخل الفضاء السياسي في الجزائر حول ما إذا كان ذلك أمرا جيدا أو سيئا للبلاد. ويذكر أن أغلب الأحزاب السياسية الراسخة أشارت إلى مساندة ضمنية لولايته الخامسة، بينما رفضت أحزاب معارضة ذلك ورأت أن تجديد ترشيح بوتفليقة سيزيد من المصاعب الاقتصادية التي تعاني منها الجزائر.
وليس من المستبعد أن تكون الدائرة الضيقة المحيطة ببوتفليقة قلقة من احتمالات حدوث انقلاب عسكري ضد الزعيم المتقدم في السن. وما يدعم هذه الفكرة هو ما أشيع من قبل عن إبعاد البعض من الحلفاء المقربين لقايد صالح داخل القوات المسلحة، وهو ما يوحي بأن قايد صالح يتصرف جزئيا بأوامر من بوتفليقة وأن الحكومة المدنية تمارس السلطة التي لديها على الجيش.
ومؤخرا قامت الحكومة بتطبيق قانون يمنع الجنود المتقاعدين من التدخل في الشؤون العامة بعد وقت قصير من انتقاد مسؤول عسكري فكرة ترشح بوتفليقة لولاية خامسة. ويوحي ذلك بأن الحكومة لديها درجة ما من التحكم في الجيش، على الأقل عندما يهدد الجيش سلطتها.
ولطالما عملت الحكومة على تهدئة الجيش وإرضاء النخبة العسكرية للحفاظ على سلطتها، ويتضمن ذلك السماح للجيش بممارسة تحكم نسبي في شبكات المحسوبية التي تمنح ضباطه الأولوية في الأراضي والمشاريع في القطاع الخاص. ونظرا إلى النفوذ السياسي الهائل الذي يتمتع به الجيش الجزائري، ليس من المفاجئ بأنه انتفع بشكل كبير من شراءات أسلحة كبرى وأنه مجهز جيدا نسبيا.
وفي هذا الصدد تأتي الجزائر في المرتبة الثانية بعد مصر التي تصنف القوة الأفضل تجهيزا في القارة الأفريقية، وفي السنوات الأخيرة اشترت كميات ضخمة من الأسلحة المتطورة من روسيا وأوروبا. ومن المرجح أن تكون هناك دوافع سياسية ما خلف شراءات الأسلحة الجزائرية، إذ أن الحكومة تريد استرضاء جنرالاتها بمعدات عسكرية جديدة.
ولا يحجب ذلك أن هناك دافعا أمنيا وطنيا واضحا وراء شراءات الأسلحة هذه، إذ يبدو أن شهية الجزائر السخية للأسلحة تتعارض مع إحجامها عن استعراض القوة بعيدا كثيرا عن حدودها وهو تردد مكرس في القيود الدستورية على الانتشار العسكري أو التعاون مع مبادرات مكافحة الإرهاب بزعامة أجنبية.
ومع ذلك، تشعر الجزائر بالحاجة إلى الحفاظ على تفوقها العسكري على جارها ومنافسها الجيوسياسي المغرب الذي تصادمت معه في عدة مناسبات. وبالإضافة إلى ذلك زرعت حرب التحرير الدامية والطويلة الخوف داخل الجيش الجزائري من التدخل الخارجي في شؤونها وترى بأن القوة هي رادع قوي للتدخل الأجنبي.
وإذا تجاوزنا نظرية الانقلاب، من الممكن أن يكون أحمد قايد صالح نفسه بصدد إعادة تنظيم القيادة العسكرية استعدادا لممارسة المزيد من السلطة بمعزل عن بوتفليقة، خاصة وأن الرئيس الذي تحاصره المشكلات الصحية يزداد مرضه وضعفه. وقد يكون قائد الجيش بصدد التخلص من بعض الجنرالات الأكثر طموحا الذين تحدّوه شخصيا أو الذين يقفون في صف سعيد بوتفليقة، الأخ الأصغر للرئيس الذي يحتل دورا مهما خلف الكواليس في حكومة أخيه.
وترى تخمينات أخرى أن قايد صالح قام بعزل كوادر عسكرية للتخلص من أولئك الباقين في هيكل السلطة ولهم علاقات مع الجنرال محمد مدين الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية المعروف باسم توفيق كان الرئيس بوتفليقة قد خلعه في سنة 2015.
وتتطلب هذه التحركات التنسيق بين زمرة بوتفليقة وقايد صالح، فيما يوحي حفاظ قايد صالح على منصبه في قيادة القوات المسلحة وهو يقوم بالتعديلات بالمؤسسة العسكرية، بأنه فعلا يحظى بمساندة بوتفليقة. كما يوحي حفاظ قايد صالح على سلطته في السنوات التي تلت خلع توفيق بأنه يوازن جيدا بين زمرة بوتفليقة وزمرته، لكنه قد يكون لا يزال قلقا حول علاقته المستقبلية بالرئاسة بعد رحيل الرئيس المريض الحالي، وربما يؤدي ذلك إلى زعزعة توازن السلطة.
وأمام مساع عسكرية لإحكام قبضتها على البلد في ظل مصير مجهول لمستقبل الرئاسية، يبدي الجزائريون تشكيهم من الوضع الاقتصادي المتردي وقد تعالت أصوات تظلمات عامة الشعب من الفساد المستشري في المجتمع الجزائري وذلك في وسائل الإعلام الإخبارية في البلاد. ويتمثل أحد الاتهامات الموجهة ضد أفراد من القيادة العسكرية في استغلالهم مناصبهم للإثراء عبر غسيل الأموال وأنشطة محظورة.
وما يمكن استنتاجه عقب عمليات العزل داخل المؤسسة العسكرية التي تلت عملية التهريب الفاشلة للمخدرات ثم إقالات شهر سبتمبر التي أدت إلى تحقيقات مالية للضباط المتورطين، أن الحكومة بصدد ترتيب المشهد السياسي بموافقة من الجيش وفي الوقت نفسه تحاول الحكومة والقوات المسلحة تخفيف حالة عدم الرضا على الأداء الاقتصادي الجزائري وإلهاء المواطن الجزائري بمستجدات الشأن السياسي الذي يستعد لتنظيم انتخابات رئاسية حاسمة ومصيرية.