الخطوبة شعر والزّواج نثر

الأحد 2018/10/21
تتعدّد أسباب العزوف عن الزّواج في المجتمعات، وإن تبدّت الظاهرة بصورة واحدة مؤتلفة، إلا أن الاختلافات تعود إلى الفرد نفسه، بقطع النظر عن جنسه أو المنظومة الثقافيّة التي ينتمي إليها، كما يرجع إلى تباين الدوافع لدى كلا الجنسين.

بالإمكان لملمة بعض ما يخصّ ظاهرة العزوف عن الارتباط برباط الزواج عن طريق الملاحظة بدايةً، بغير تمحيص أو تحليل معمّق للظاهرة. فإذا تأخّر أحد الشّبان في الإقدام عن الارتباط بفتاة في مجتمع يثمّن قيمة الزّواج المبكر، فسوف تذهب الأفكار باتّجاه الوضع الاقتصادي المحبط له، أو العجز النّفسيّ-الجنسيّ ما لم يكن الدّافع الأوّل مقنعًا. أمّا الدّوافع لدى الفتاة فغالبًا ما تكون مغايرة.

بعض الفتيات يبقين في دائرة الوحدة لأسباب تعود إلى حظوظهنّ بما يتمتّعن به من صفات خارجيّة أو داخليّة، من حيث الشكل والمظهر غير الجاذبين للجنس الآخر، أو البيئة غير المتجانسة مع الجو العام للمجتمع. هذا لجهة عين الآخر – الرجل والمحيط، أيّ أنّ هذه الأسباب تصنّف في باب الإكراه، وحزن الفتاة في أن تبقى بغير شريك في ما لو توفّرت فرصا لارتباطها.

أمّا من وجهة نظر ذاتيّة تخصّ المرأة وحدها، بتقدير حرّيّتها الشخصيّة وحقّها في الاختيار؛ فنرصد اتّجاهين، أحدهما منبعه “العشق الإلهي”، أو النّزعة التصوّفيّة الدّافعة أحيانًا للرّهبنة وطلب النّسك في بعض المجتمعات التي تدين بالمسيحيّة، ولدى بعض الفرق الإسلاميّة الباطنيّة.

واتّجاه آخر يقوم على مبدأ مشروعيّة الاختلاف، ورفض الارتباط لكراهية التّبعيّة لسلطة الرجل وأهوائه ومزاجيته، والرغبة في الاستقلالية المعنوية، بعد تحقيق استقلالها المادي. إذًا، للوضع الاقتصادي دور في تحديد الكثير من الخيارات لدى المرأة. هذا الاتجاه الأخير يستحق التوقّف للنظر فيه، لا سيما أنّه حدث مستجد، ينمو باطراد لتنامي الفرص المتاحة أمام المرأة كي تتبوّأ مراكز رفيعة في عملها.

غالبًا ما يشكّل الزواج لدى المرأة عامل استقرار عاطفيّ. فحين أقدمت على الارتباط، فوجئت بموقف إحدى الصّديقات الرّافضات لفكرة وجود الرجل بحياتها، وقد تخطّت سنّ الزّواج، على الرّغم من أناقتها وسعة ثقافتها. وحين استوضحتها عن الأمر، قالت إنّ الرّجال شعراء في مرحلة الخطوبة، وبعد الزّواج يتحوّل الشعر نثرًا. وأجمل الشعر أكذبه… وبعد برهة من التفكّر، رتّبت كلامها في ما يشبه المثل: “الخطوبة شعر، والزواج نثر”.

كلامها هذا جعلني أذهب في تصوّري باتّجاه تجربة غير ناجحة مررت بها، وكذلك إلى تحليل معاني الشعر والنثر في الصورة التشبيهية التي رسمتها. لم تكن صديقتي بعيدة عن الحقيقة الممكنة في وصفها. في شاعرية الكلام نداء البعيد ليقترب، وفي جماليّات الصّور التعبيريّة أحلام تتجسّد، والشعر أقدر على التصوير الكلامي بتكثيفه وإيحاءاته.

التودّد للحبيبة عبر الكلمة بغية الاقتراب والقبول، والإغراق في الغزل، ووصف الأشواق لها، تتضاءل وظيفتها حين يتحقّق حلم اللقاء؛ فيسود غالبًا، الصمت، بل تبدأ وظيفة النثر، بحسب تعبير صديقتي. وهو يعني بتفاصيل الحياة اليوميّة وشجونها، أي “بالمعاني التعيينيّة”، إذا ما استعرت لغة النقد. إن كانت مرحلة الخطوبة شعرًا يصوّر بيت الزوجية أحلامًا وردية، واللقاء المستديم فردوسًا، فالواقع ربما لا يأتي على مستوى هذه الرّوعة من الحلم المتصوَّر. فهل هو القلق من الخيبة والخذلان، أو تكشّف السّراب في عذوبة الكلمات جعل بين صديقتي وبين الرّجل-الزّوج أميالًا؟!

للحفر في معاني الحياة الحلميّة وضرورتها الوجوديّة والنّفسيّة لدى المرأة بخاصّةٍ، فإنّ سيكولوجيّتها تشير إلى أنّها تعشق الحبّ لذاته بقدر ما تعشق الحبيب في مودّته ورحمته. لذا، فإن ترك مسافة زمنيّة ومكانيّة تبقي الأشواق متّقدة؛ تُدفئ ولا تحرِق، بل تفسح المجال للحلم كي يتنفّس.

ازدياد اقتراب الشّريكين من بعضهما البعض، قد لا يجعلهما يريان الجمال في العلاقة؛ إذ يتلاشى الحلم في القرب. مثل الثّبات في المكان يفقدنا الحنين إليه؛ وأجمل من المكان الرنوّ إليه، كما يعبّر بعض الأدباء. للحلم، وفلسفة الحياة عبره، رؤى تتقاطع.. ينشد فرناندو بيسوا: “أريد أن أحلم بك، لا أن أحبّكِ”.

ويعلن غاستون باشلار أنّه يحلم؛ فالعالم إذن، موجود كما يحلم به. ويميّز هايدغر بين الواقع والحلم بوصفه يمكن اختباره يوميا ليس سوى اللاواقعيّ، والشعر هو الواقعيّ فعليّا، ويبعث على ما هو خياليّ، وما هو حلم في مواجهة الواقع الصّاخب. كما يضيف بأنّنا لسنا سوى حلم بالحياة. لكن، أليس بالإمكان صناعة خليط من الاثنين لإتقان فنّ العيش: الحلم بالحياة، وعيش الحياة بوصفها أجمل حلم، وأجمل من أيّ حلم؟ وثالثهما أنّ الآتي سيكون أجمل، فما أروع ما لم يكن بعد!

إخراج صديقتي قولها الذي قد يجري مجرى المثل يعود بي إلى ظاهرة الأمثال الشّعبيّة، وعلاقتها بالفلسفة. فالسبيل الذي يستخدمه الإنسان لإطلاق الأحكام، يفسّر اجتراح الأمثال الّتي تغدو ثقافة مجتمع أو فلسفة حياة، بوصف المثل تصويرًا موجزًا ومكثّفًا لعلاقات الإنسان بذاته وعالمه، وبالمفاهيم والمعتقدات. وموقفه يرتبط بوعيه ولاوعيه، وكلّ منهما جزء من الوعي واللاوعي الجماعي، الأمر الّذي يظهر تناقض دلالات الأمثال الشّعبيّة من دون بذل جهد، ولا نعجب لذلك، لأنّها تبريرات لحالات متعاكسة. ويخفي هذا التعارض نقضًا فلسفيًّا أصيلًا.

ولتوضيح ذلك، فإنّ المثل الشعبي  “وجود الرجل بالبيت رحمة ولو كان فحمة” يثمن العلاقة الزوجية مهما اعترضتها من تحدّيات، وضرورة وجود الرجل في حياة المرأة، ما يناقض ما تعتقده العازفة عن الزواج في مقولتها “الخطوبة شعر والزّواج نثر” بدلالتها السلبيّة.

إنّما أصول الفلسفة الكلاسيكيّة هي الدهشة والشك، بينما المفكّر الشعبي لا يعرف مثل هذه الأصول لأنّه دائم المراقبة للواقع. ويعمل على نقده واتخاذ موقف منه انطلاقًا مما يخصه من إيمان، وطلبًا للاستقرار الاجتماعي، وهو يبتعد من روح التحليل الذي يشكّل جوهر الفلسفة الكلاسيكيّة.

بالعودة إلى سرديّتي، كان أمامي رصد سوسيو-نفسي لجذور تشكيل صورة المرأة لنفسها انطلاقًا من علاقتها بأمّها. حيث تواجه الفتاة أمها، وتكافح لخلق هويّة مختلفة عنها. قد تعيش خبرات الاكتئاب، إلى أن تقرّر إتباع نموها الداخلي الخاص بها.

هكذا، تحرّر نفسها من ميثولوجيا الحب الجنسي، وحاكميات المنظومة الاجتماعيّة. تتغيّر صفة المرأة بانتقالها من وضع اجتماعي إلى آخر، فلا تحتفظ بكِنية معينة، وتنسب دومًا إلى رجل تحمل اسمه، لا اسمها. فهي “ابنة فلان” حين تكون عزباء، لتصبح “زوجة فلان” حين تنتقل إلى بيت زوجها، “فأمّ فلان” حين تنجب أوّل ذكر.

لا تسمّى باسمها. والتسميّة نداء ودعوة وحضور. وبتغييب اسمها وإبراز الكنيات الرديفة دلالة على تبعيّتها للرجل والانتقاص من كيانها. لذا، قد يأتي قرارها بالعزوف عن الزّواج بمنزلة آليّة دفاعيّة من آليّات النفس لدفع هذا التبخيس بحقّها في الفرادة والتّمايز. لم يأتِ ردّي على المثل المقترَح من بطلة قصّتي، سوى من المعجم النقديّ ذاته؛ إذ فطنت إلى مقولة أبي حيّان التوحيدي في أبهى توصيف للشعر والنثر معًا، بأنّ أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنّه نثر، وبين نثر كأنّه نظم.

ماذا، يا صديقتي، لو جاءت العلاقة بين الحبيبين سرديّة في الشعر، وتصويرًا شعريًّا في السّرد، ليتلاشى الحدّ الزّمني بين الما قبل والما بَعد، ويتوحّد الثّنائي في الزّمن بدلاً من أن يؤسّس لمأزقهما.؟!

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: