الفساد في الجزائر: تاريخ منسي من الإرهاب البارد ومنطق الدولة “الغنيمة”
وصف السفير الفرنسي السابق في الجزائر برنارد باجولي في كتابه الأخير “الشمس لا تطلع من الشرق” السلطة في الجزائر بالحاملة لعبقرية تضييع الفرص في التاريخ. عبارة تختزل أكثر من معنى تتصل كلها بالجذور العميقة لولادة دولة الاستقلال وشاكلة سير دواليبها العسير على الرمل،
والتي تنحصر أساسا في ذلك الغموض الارادي في عدم الشفافية على كل الصُعد السياسية، والاقتصادية والأمنية، معنى ذلك بالضرورة تقليم تقزيم دور المؤسسات لتغدو وجهات موجهة للاستهلاك الإعلامي والشعبوي ليس غير، من هنا كانت دولة الاستقلال معرضة في كل مرة للسقوط في مطب أزمة وتأزيم خانقين طالما أن الإرادة ظلت مستترة والحل والعقد في غرف القرار السياسي المظلمة بمعزل عن المجتمع وجماعات الوعي فيه المتنامية لكن في هوامش المعارضة والاعتراض. ومن سلسلة أزمات البلاد، كشرعية السلطة المستديمة، أزمة الهوية الجدلية، أزمة التعددية والمسار الانتخابي، أزمة الحرب الأهلية والإرهاب، جاءت أزمة الفساد التي عبرت عنها بعض الجهات بالإرهاب البارد، يعني عشرية من قتل الأمة في طوح إقلاعها الاقتصادي والتنموي أتاحت فرصتها لها أزمة غزو العراق وما صاحبها من ارتفاع مهول لستر النفط، تبخر في صحراء الفساد!
في ميلاد منطق الغنيمة
تلزمنا مسألة السعي لفهم ظاهرة الفساد في الجزائر الارتجاع الحتمي إلى خوالي السنين التي أعقبت بقليل الاستقلال، والتي صنعت الوعي الطارئ بقضايا الدولة والمجتمع، وعي يقوم على أساس المنطق الغنائمي والاغتنامي واقع الحال وحسم معركة الحكم في الجزائر، والاستدامة فيه. بيد أن التاريخ في الحقيقة، ليس يُغتنم بل يصنع، فالكل يذكر كيف أن الشرعية المؤسسية التي نصت عليها مواثيق المجالس والهيئات الوطنية قبيل الاستقلال قد ديست ليتم تكريس المنطق الغنائمي للدولة حين جُعلت “الأسرة الثورية” الوكيل الحصري لإنتاج الحكم في البلاد، على حساب الكفاءات والإطارات التي كانت تدفع بها المعاهد والجامعات الجزائرية. وفي عهد التعددية صارت الغنيمة عنوانا لسير السياسة وفق تضاريس الريع النفطي، الكل ينال قسطه منها حسب مستوى وحجم ما يبديه من الولاء، ما نسف بشكل شبه كلي حلم التحول من الأحادية إلى التعددية والشفافية وضرب في الصميم منطق المؤسسات كمحرك للسياسة والاقتصاد في البلاد.
تغييب المؤسسة تغييب الشفافية
الملاحظ عبر تجربة الدولة الوطنية في الجزائر، أنه لكما تم تغييب مؤسسات الدولة لا سيما منها النيابية ومنوطة بممارسة الرقابة على المال العام في الحضور، أي حاضرة شكليا وغائبة وظيفيا، يطفو على السطح المنطق الغنائمي الذي به تم تدمير الشرعية وإبقاء الاستقلال مجتزأ خاليا من حق الشعب في ممارسة سلطته على مقدراته.
ففي عهد بن بلة، تم التلاعب بصندوق التضمن الذي ملأه الشعب بتبرعاته، مساعدة للدولة الفتية المستقلة لتوها كي تستوي على عودها، ولم تتكشف ملابساته بوصفه أول جريمة فاسد في تاريخ البلاد، وبعد إزاحة بن بلة من قبل وزير دفاعه آنذاك هواري بومدين بانقلاب عسكري، جُبّ ما قبل حركته الانقلابية، من جرائم وسُكت عن صندوق التضامن، ولم يكتف بذلك بل وجمد نشاطات المؤسسات النيابية وما صدر عنها من قوانين وصار يدير البلاد ويشرع لها بمراسيم، كان من نتاج ذلك بروز فجائي لحالات برجوازية معزولة صادمة ومصادمة لطبيعة المجتمع الجزائري والغرض من ذلك كان أزاحتهم من العمل السياسي باعتبارهم كانوا يشكلون مصدر قلق لسلطة بومدين لطبيعة تكوينهم وعملهم السابق في جهاز الأمن العسكري العمود الفقري الدائم للمؤسسة العسكرية صانعة الرؤساء، على رأسهم عبد الحفيظ بوصوف الذي كان الرجل القوي في الدولة الفتية، مؤسس “المالق” أي جهاز الاستخبارات والتسليح، ومسعود زوكار، أحد رجال الاستخبارات ممن كانت لهم علاقات خارجية واسعة.
في عهد الرئيس الثالث للجمهورية، الشاذلي بن جديد (1979/1992) ارتفعت أسعار النفط في بداية الثمانينيات بسبب حرب الخليج الأولى، وبدلا من اغتنامها لصالح الأمة من خلال إرساء مخططات تنموية كبرى تنقل الاقتصاد من حالة الركود والترهل الذي كان يتسع مع بداية الانهيار الوشيك للنظرية والمعسكر الاشتراكيين اللذين أوجدت في قلبهما الدولة الجزائرية منذ مؤتمر طرابلس عام 1961، تم اغتنام تلك الطفرة المالية من طرف رجال الدوائر الضيقة من سلطة القرار، وعرفت البلاد أكبر عملية تبذير للمال العام بفتح سوق الاستيراد على مصراعيها وأغرقت الأسواق بالكماليات، وذلك تحت شعار من أجل حياة أفضل، في إشارة ضمنية لإرادة في التحول من نمط تسييري في الاقتصاد قائم على الوسائل العامة، لا تستفيد منها سوى النموكلاتورا إلى نمط آخر إن لم يصرح به علنا، لكن مع منتصف الثمانينيات انهارت أسواق النفط العالمية، ما انعكس سلبا على برامج الحكم وقتذاك، فاحتدم الصراع داخل السرايا بين الإصلاحيين الذين كانوا يريدون تقويض أساليب التسيير ونُظمه البالية على صعيد السياسة قبل الاقتصاد لأنه كان يستحيل تجسيد مخططهم التغيري في الاقتصاد دونما كسر اطر الأحادية الآسرة التي كانت تدار بإحكام خلف ستائر مؤسسات الواجهة.
فاقتضت الحاجة تفجير الشارع الجائع فيما سُمي، بأحداث أكتوبر 1988 التي كادت أن تتحول من مجرد انتفاضة مصطنعة لإزاحة المحافظين وتجريدهم من مصادر قوتهم وحجيتهم، إلى ثورة عارمة فانتصر الإصلاحيون على المحافظين، وتم الشروع في تهديم آلهة الأحادية في داخل معبد السلطة، ويذكر الجميع كيف أن الوزير الأول السابق في عهد الشاذلي، عبد الحميد إبراهيمي، دق مسمارا في نعش المحافظين حين صرح بما عرف بسرقة 26 مليار دولار، لم يقو القضاء يوما على فتح ملفها! قبل أن يتبين أن الآلهة الخفية لم تهدم بريح الإصلاح، فبعد ثلاث سنوات من السير الساخن لعجلة التحول الاقتصادي والسياسي (1989/1992) التي كان يقودها الشاذلي عبر ذراعه الأيمن مولود حمروش، استغل المحافظون خطر الإسلاميين المحدق بالسلطة بعدما فازوا في الدور الأول بأغلبية البرلمان، ليتمردوا على مسار الإصلاحات والانتخابات ويوقفوا دولاب التغيير عن الدوران لتدخل البلاد برمتها في حرب أهلية ضروس أتت على الأخضر واليابس.
هزيمة قوة المؤسسات أمام مؤسسات القوة!
والغريب أنه بالموازاة مع استمرار تلك الحرب على الإرهاب كانت، مؤسسات الإنتاج العمومي التي شيدها الشعب بماله، تباع بالدينار الرمزي فيما عُرف بالخوصصة التي فرضها صندوق النقد الدولي على حكومة رضا مالك وقتها، فجأة راحت تنمو طبقة برجوازية جديدة، خلفية أصحابها الاجتماعية تدل على أنه يستحيل عليهم مراكمة كل تلك الثروات الهائلة، وأن وراءهم قوة استثنائية تدعمهم وتحميهم وبالتالي هي المستفيدة الأولى من تلكم الثروات، فتأكد للجميع أن قوة المؤسسات في الدولة قد خضعت لمؤسسات القوة، وكل أعضاء ما يسمى اليوم بمنتدى رجال الأعمال الذي يقوده رجل أعمال الأول في البلاد علي حداد، لم تكن لهم صالة بعالم المال وتطوره في الجزائر، بل لم يكونوا حتى من حركة المقاولين المتوسطة التي بدأت تنشط نهاية ستينيات القرن الفائت وبداية سبعينياته إلى غابة منتصف الثمانينيات والتي كان يفترض أن تغدو هي رأسمال وقاعدة الأعمال المستقبلية في الجزائر، لكنها أحيلت على الهامش واستبدلت بطبقة غريبة عجيبة لا تمتلك لا الخبرة والعراقة ولا حتى المستوى العلمي والثقافي في السواد العظيم من رجالاتها الذين ينحدرون من أوساط اجتماعية ضعيفة.
تلك الطبقة ستظهر فيما بعد، لا سيما مع قدوم بوتفليقة إلى الحكم، كقوة سياسية ضاغطة، بها تتصارع مراكز القرار داخل السلطة، فالكل يذكر كيف بُنيت إمبراطورية خليفة ثم هُدمت في وقت وجيز بعدما اختل ميزان القوى داخل غرف صنع القرار، وكيف حورب رجل الأعمال الأنجح ميدانيا يسعد ربراب المحسوب على رجل الاستخبارات القوي المُقال الجنرال توفيق، ولا تزال حرب عصب الفساد دائرة بشكل ضار، على مستويات ثلاثة، إعلامية عبر استقطاب المنابر لتوجيه الرأي العام من خلال استحداث قنوات وجرائد خاصة يمولها المتنازعون، قضائية بهد القوة التشريعية التي تعوق نشاطهم كما حدث مع التعديل الغريب لقانون الإجراءات الجزائية الذي جرد وكيل الجمهورية من القدرة على فتح تحقيق حول شبهة الفساد ما إلا بأمر من الإدارة! حالة لم تحدث في العالم بأسره حسب الحقوقي ورجل القانون الأستاذ مصطفى بوشاشي، أما المستوى الثالث فكان السياسة، وهنا عكس ما يُشاع من أن المال قد غزى السياسة في فترة حكم بوتفليقة، بل أصبح هو السياسة لا بل السلطة طالما أن أصاحبه صاروا الفاعلين في معتركات الانتخابات وإدارة المؤسسات السياسية والسيادية وفق طموحاتهم عبر مواليهم، فكل ما بقي، إذن، من التعددية السياسية لا يعدو في الحقيقة كونه مجرد ديكور وجرس بلاغي يسمع بإيقاعات موسمية في خطابات الإعلام وأعراس السياسة لا غير.