إدريس جطو مهندس تسونامي السياسة الذي يعصف بالمغرب
ما كان يمر به المغرب في زمن الخمسينات والستينات من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية جد متشنجة ناتجة عن زمن ما بعد الاستقلال والصراع بين السلطة والمعارضة، لم يكن ليغير مسار الشاب إدريس جطو الذي اختار الدراسة والتحصيل العلمي على أي خيار آخر، فهدفه الأسمى هو استكمال ما بدأه.
التحق جطو، بمدينة الدار البيضاء القريبة من مسقط رأسه ليتمم دراسته بثانوية الخوارزمي إحدى أشهر المدارس، وليحقق حلمه بنيل شهادة باكالوريا فتحت له أبواب كلية العلوم بالرباط التي غادرها في العام 1966 وهو يحمل دبلوم الدراسات العليا في العلوم الفيزيائية والكيمياء.
بعدها رحل إلى لندن لاستكمال تكوينه متوجا مسعاه بدبلوم “تدبير وتسيير المقاولات” من جامعة كوردوينرز كوليج، عكس مجايليه الذين كانوا يفضلون فرنسا مكانا للتحصيل والتكوين.
طموح الرجل الذي كان والده يدير محل بقالة صغير، لم يستقر عند حدود موظف حسابات بأجر محترم داخل شركة “باطا” المختصة في صناعة الأحذية، بل تعداه إلى تدشين مشروعه في ذات المجال ويتوسع بشكل منهجي وتحدٍ واضح لكل العراقيل الإدارية والجغرافية والديموغرافية، لتصل أعماله إلى مجالات صناعة الجلد والعقار والبناء والخدمات والنسيج، ودخوله مجال القروض الصغرى بتأسيس جمعية “الأمانة”.
حس براغماتي
هناك قصة متداولة لم ينفها الرجل تحكي أن أول لقاء كان له مع الملك الراحل الحسن الثاني هو عندما دخل القصر الملكي ليقدم له هدية عبارة عن حذاء فاخر من صنع شركته أوديربي، فاستمرت العلاقة إلى غاية اليوم، ولكن نيله ثقة الدوائر العليا بالمملكة لم يكن هينا بل تطلب من إدريس جطو مجهودا إضافيا ليتولى أول منصب حكومي وزيرا للتجارة والصناعة في العام 1993 ثم وزير للخارجية في يونيو 199.
الواقع أن جطو بعدما كان في بدايات حياته منصرفا إلى التحصيل العلمي كان يبني حول جسمه جدارا سميكا حتى لا تتسرب إليه أعطاب السياسة ودواهيها، فرغم أنه احتك بمجال تدبير وصناعة السياسات العمومية إلا أنه كان دائما ينجو برأسه من مطبات هذه المهنة بحسه البراغماتي وذكائه التجاري الكبير، وكان قد غادر حكومة عبداللطيف الفلالي بعدما كان وزيرا للمالية عائدا إلى حصون مشاريعه واستثماراته التجارية.
السلطة ليست تسلية بالنسبة إلى جطو. إنها تضحيات متتالية وعلى كافة الأصعدة، فهو ربما بدافع حسه الاقتصادي أو ربما طموحه للاقتراب أكثر من مربعات السلطة وصناعة القرار كان قد فاتح الملك الراحل الحسن الثاني أواسط تسعينات القرن الماضي باستفحال ظاهرة التهريب، فأمر الملك بحملة تطهير نفذها وزير الداخلية السابق إدريس البصري بطريقته فأكلت الأخضر واليابس ولم تعط أكلها كما أقر أكثر من مراقب ومنهم جطو الذي لم يرغب في استمرارها.
التكنوقراطي
أقر العاهل المغربي الملك محمد السادس المفهوم الجديد للسلطة بعد وصوله للحكم في العام 1999 وتفهم بشكل جيد أن الفترة المقبلة من حكمه تحتاج إلى تكنوقراطيين يدبرون معه اللحظة الاجتماعية والسياسية بنفس اقتصادي واستثماري.
صورة جطو المهنية أهلته للقيام بمهام وزير الداخلية في حكومة عبدالرحمن اليوسفي، وأشرف على أول انتخابات في العهد الجديد وصفت بأكثر نزاهة وشفافية وهو ما زاد في أسهم الرجل داخليا وخارجيا ليصبح بعدها وزيرا أول بعدما غادر اليوسفي الوزارة غاضبا من أنه لم يتم احترام ما أسماه بالمنهجية الديمقراطية.
وبعدما استفحل النقاش بين الاستقلاليين والاتحاديين حول من له الحق في رئاسة الحكومة بعد انتخابات 2002 اختار الملك جطو التكنوقراطي المشبع بتجربة طويلة في العمل الحكومي منذ عقود، فشكل حكومته من وزراء منتمين إلى أحزاب سياسية، خصوصا الاتحاد الاشتراكي والاستقلال، إضافة إلى تجمع الأحرار والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية وشخصيات مستقلة.
وقد تطرق اليوسفي في مذكراته الصادرة مؤخرا إلى ذلك بالقول “بعدما أخبرني الملك محمد السادس أنه قرر تعيين إدريس جطو على رأس الوزارة الأولى، قلت إن الدستور يمنح للملك حق تعيين من يشاء كوزير أول، ولكن المنهجية الديمقراطية تقضي بتعيين الوزير الأول، من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في الانتخابات”.
قبل تعيين جطو بسنة قال محمد اليازغي القيادي الكبير بالاتحاد الاشتراكي إن التكنوقراطيين “ضروريون ونحن لسنا ضدهم، ولكن دورهم يقتصر على تنفيذ التوجيهات وتوفير الآليات والإمكانيات لاختيارات واضحة ومنبثقة من الإرادة الشعبية”. وما كان يعيبه على جطو الكثيرون هو أنه كان يدير حكومته وكأنه مدير إحدى شركاته التجارية وفشل في إدارة بعض الأحداث السياسية.
رغم أن صفة التكنوقراطي لصقت بسيرة جطو إلا أن هذه الكلمة بالنسبة للأمين العام للتقدم والاشتراكية نبيل بن عبدالله مبالغ فيها شيئا ما، لأنه، لأن الرجل له تجربة سياسية، حيث تحمّل مسؤوليات وزارية منذ التسعينات.
هذا الرأي من شخصية سياسية أكده الكثيرون الذين أرجعوا لصفته التكنوقراطية المساهمة في إنجاز بعض المشاريع الكبرى، كميناء طنجة المتوسط والبرامج السكنية الضخمة لإنجاز مئة ألف وحدة سكنية سنويا، والقضاء على السكن غير اللائق، وإبرام اتفاقيات التبادل الحر مع عدد من الدول العربية وتركيا والولايات المتحدة الأميركية ونجاحه في جلسات الحوار الاجتماعي مع النقابات وتقليل الإضرابات القطاعية.
يعرفه الكثيرين بأنه رجل ثابت على مواقفه ومرن دون التفريط في صفات المحافظة والبساطة لديه، جديته وحذره وحسن تواصله وعلاقاته القوية مع محيط السياسيين وعالم الاقتصاد كلها عوامل جعلت منه رقما مهما في معادلة التوازنات السياسية بالمغرب رغم الانتقادات والإشاعات التي تعرض لها كشخصية عمومية.
اليوم، ونظرا لما تحمله تقارير المجلس الجهوي للحسابات من شفافية ومصداقية يتصف بهما قضاته، إلا أن ذلك قد يصطدم مع من لا يريد لملفاته الخروج للعلن وإطلاع أعلى سلطة بالبلاد على مضامينها. وقد سبق لحميد شباط الأمين العام السابق لحزب الاستقلال وعمدة فاس أن اتهم قضاة المجلس الجهوي للحسابات في مهرجان خطابي بأنه “مخترق من طرف تيارات ظلامية”، وذلك بعد أن أعد المجلس تقريرا قاتما تحدث فيه عن خروقات بالجملة دون أن تتم إحالتها على النيابة العامة.
وبخصوص تجربته في رئاسة الوزراء قال عنه المفكر عبدالله العروي في كتابه خواطر الصباح “جاء خبر سيء، حين أسندت إلى وزير الداخلية الحالي، صاحب التحليلات السياسية التافهة، مهمة تشكيل الحكومة الجديدة، سيجد الكثيرون أعذارا شتى لهذه الخطوة؛ المشكلات الاقتصادية، الإصلاحات الملحة، التوتر مع إسبانيا، الأزمة المستعصية مع الجزائر.. إلخ، لكن كل هذه التأويلات لن تحجب الحدث الأهم، وهو أنها خطوة إلى الوراء، عودة إلى حكومة التقنوقراط”.
وتمر عدة سنوات. ويختمر الرد عند من أضحى يقيِّم عمل الحكومات والهيئات السياسية من خلال ترؤسه المجلس الأعلى للحسابات، وبكل دبلوماسية معروفة عن الرجل قال “لا يمكنني مواجهة شخصية من هذا الحجم والوزن، وعلى هذا المستوى من المعرفة والعمق مثل المفكر عبدالله العروي، أنني لم أطلب شيئا، ولم يسبق لي أن طلبت أن أكون وزيرا أول، أو سعيت إلى أي وزارة، وأعتز وأفتخر بأنني تحملت المسؤولية في فترة دقيقة من تاريخ وطننا، وقد فعلت ذلك بكل ما استطعت وقدمت كل مجهوداتي”.
حديث الساعة في المغرب
وإذا كان من بين أهداف الإشاعة كوسيلة حرب نفسية هو ضرب مصداقية الشخص وتدميره أو على الأقل التقليل من تأثيره، فلم يسلم منها جطو الذي تعرض لعدد من ضغوط وشائعات تضرب في ذمته المالية وشفافيته واتهامه بمحاباة رجال أعمال ضد آخرين، خصوصا بعد مغادرته منصب الوزارة الأولى بعد انتخابات تشريعية في العام 2007، إذ كبرت الضجة حول شائعة امتلاكه أراضي ومزارع وتقديمه إعفاءات في المحيط الحضري للدار البيضاء بمقابل مادي، قال عنها جطو إن الهدف منها نسج صورة لرجل يريد الإثراء غير المشروع وأن هناك من يريد تلطيخ سمعتي.
جطو والعاصفة
وها هي الآلة الخطيرة للدعاية والشائعة تستنفر كل طاقاتها بعدما ظهر جطو في شريط فيديو عند خروجه من مقر البرلمان عقب افتتاح الدورة التشريعية الجمعة 12 أكتوبر الجاري، وهو يخاطب شخصا بالقول “قل ليه سيفطني عندك جطو” أي قل له أرسلني إليك جطو، وهو ما تم تفسيره بمبالغة ودون تبين للملابسات الحقيقية للحوار الذي دار بين الشخصين، بأنه يتوسط لهذا الشخص لدى جهة معينة للحصول على خدمة.
ويبدو أن تلك الشائعات لم تنل من سمعة الرجل، فبعد غياب شبه طويل أعيد جطو إلى الواجهة من خلال ترؤسه المجلس الأعلى للحسابات المخول له دستوريا مراقبة المالية العمومية بالمملكة المغربية، تكليفه من طرف الملك محمد السادس في العام 2012 ليكون على رأس مؤسسة حساسة لهو دليل على أنه رجل المهمات الخاصة وأنه
مؤهل لتخطي الصعاب لإنجاح مهامه كما كان دائما وما استقدامه إلا خطوة، مؤكدة لتنفيذ استراتيجية الدولة في محاربة الفساد.
لهذا يعتبر جطو مهندس “تسونامي” السياسة الذي ضرب عددا من الوزراء والمسؤولين إثر اختلالات شابت مشروع الحسيمة التي تسببت في إشعال احتجاجات كبيرة بالمنطقة، فالتقارير التي رفعها جطو أمام العاهل المغربي كانت حاسمة في تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة إذ لم يتوان المجلس الأعلى للحسابات الذي يرأسه في فضح تلاعبات عدد من القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية والوزراء الرافضين كشف ثرواتهم أمام الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية بالبلاد.
وينظم الدستور المغربي مجال عمل المجلس الأعلى للحسابات الذي يعتبر أعلى هيئة لمراقبة المالية العمومية بالمملكة المغربية، ويتولى ممارسة المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية. ويتحقق من سلامة العمليات، المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة.
استهدفت تقارير جطو منذ العام 2012 إلى 2018 تقريبا كل المؤسسات وكشفت اختلالات بخصوص نفقات الأحزاب وبرنامج التماسك الاجتماعي والمشاريع السياحية والمستشفيات العمومية والجماعات الترابية وصفقات البرنامج الاستعجالي والسكن الاجتماعي والتجاوزات القانونية وطريقة صرف المال العام وتراكم المديونية الخارجية والداخلية والسياحة وبرنامج مليون محفظة الذي لم تستفد منه الفئات والتلاميذ المنحدرين من أسر فقيرة وهشة، وتواطؤ رؤساء جماعات محلية ورؤساء مجالس جهوية وإقليمية مع ناهبي أراضي الدولة وأراضي الجموع والمقالع الرملية ومع المضاربين العقاريين والمقاولات من خلال التحايل على القانون والتهرب من واجبات الجماعات.
والواضح أن جطو في طريقه إلى تقويض معاقل المفسدين وتمهيد الطريق لتأمين المجال للمستثمرين الذين يبحثون عن الاستقرار والشفافية ولم يكن ليرضى بالمساس باستقلالية هذه المؤسسة، فالمرحلة التي دشنها في السنوات الأخيرة إدريس جطو بعمله من داخل المجلس الأعلى للحسابات كانت حاسمة في الكشف عن مجموعة من التجاوزات والاختلالات تسببت أيضا في إعفاء وزير الاقتصاد والمالية، محمد بوسعيد، وكاتبة الدولة في الماء، شرفات أفيلال.
وحتى الأحزاب المغربية كان لها نصيب كبير في تقارير جطو بعدما أوصى المجلس الأعلى للحسابات مؤخرا السلطات الحكومية المختصة بالحرص على إرجاع الأحزاب إلى المبالغ غير المستحقة أو غير المستعملة من الدعم الممنوح لها، والمتعلقة بالاستحقاقات الانتخابية السابقة واتخاذ الإجراءات اللازمة في حق التي لم تقم بعد بهذا الإجراء القانوني والعمل على وضع لائحة الوثائق التبريرية بالنسبة لكل صنف من نفقات الأحزاب.
لامست تقارير إدريس جطو كل مناحي تدخل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية وصدورها أصبح لحظة تاريخية مهمة واحتفالية يجب كما يقول محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، أن تصل إلى القضاء معتبرا أنها سيف مسلط على البعض، وبعضها يصل بانتقائية إلى القضاء.