مراكش تجمع قضاة العالم لمناقشة قضايا العدالة
العلاقة المتبادلة بين وجوب إصلاح القضاء والممارسة الديمقراطية وثيقة وقوية ولا يمكن أن يتخلى أحدهما عن الآخر، فالديمقراطية تظل بحاجة ماسة إلى قضاء مستقل قادر على مقاربة مختلف القضايا والملفات بنوع من الجرأة والنزاهة والموضوعية، بعيدا عن أي تدخل قد تباشره السلطات الأخرى، مثلما يظل القضاء بدوره بحاجة إلى شروط موضوعية وبيئة سليمة مبنية على الممارسة الديمقراطية التي تعزز من مكانته وتسمح له بتحقيق العدالة المنشودة، بعيدا عن أي استهتار أو انحراف بالقوانين.
ورغم وجود بعض المحاولات في بعض الدول التي شهدت إصلاحات هيكلية العميقة في نظمها السياسية بغاية التوجه نحو تكريس الديمقراطية، إلا أن الطريق مازال طويلا للتخلص من تركة ثقيلة تعود إلى عقود في علاقة باستقلالية القضاء الذي ظل عشرات السنوات في مرحلة ما بعد الاستقلال رهين توجهات وأوامر وإملاءات السلطة التنفيذية خاصة في القضايا والملفات الشائكة.
وعيا بكل هذه النقاط والمخاطر المهددة لاستقلالية القضاء عربيا، احتضنت مدينة مراكش المغربية فعاليات المؤتمر الدولي الـ61 للقضاة تحت عنوان “استقلال القضاء وإرساء الوضعية الكونية للقضاة” برعاية العاهل المغربي محمد السادس وإشراف الودادية الحسنية للقضاة المغاربة، وبتنسيق مع الاتحاد الدولي للقضاة.
تأتي أهمية هذا المؤتمر من مشاركة العشرات من القضاة الدوليين، الذين يمثلون منظمات دولية ذات الاختصاص في شؤون القانون والأحكام القضائية ويمثلون 87 دولة، نزلوا بمراكش، التي يُدفن في أرضها قاضي القضاة العرب، أبوالوليد ابن رشد، وناقشوا كل ما يتعلق باستقلالية القضاء على مدى أربعة أيام.
تواكب “العرب” فعاليات المؤتمر، الممتد على خمسة أيام، والذي يعد فرصة يتطرق خلالها المؤتمرون لعدد من المحاور عبر مناقشة حزمة من القضايا الهامة المتعلقة بالقضاء والعدالة، وكذلك التحديات التي تعرفها المؤسسة القضائية عبر العالم في المجالات المدنية والجنائية والتجارية والحقوقية.
وقال مصطفى فارس، الرئيس المنتدب لدى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الرئيس الأول لدى محكمة النقض المغربية، في كلمته، إن السلطة القضائية كانت، وستبقى، دائما سلطة معركتها الحقيقية تكمن في سمو الحق وسيادة القانون، وصون المكتسبات ومكافحة الفساد بكل صوره وأشكاله، وضمان الحقوق والحريات.
وأكد على أن المدخل الأساسي للنجاح هو “تغيير العقليات لتستوعب المستجدات والتحلي بالموضوعية والانكباب على العمل بروح الفريق كل من موقعه ومسؤولياته”. ووصف فارس، في تصريح لـ”العرب”، المؤتمر بالحدث القضائي الدولي الكبير.
من جهته أعلن محمد عبدالنباوي، رئيس النيابة العامة في المغرب، أن المؤتمر هو دليل على الثقة التي يضعها منظموه في المغرب كوجهة دولية تتمتع بالاستقرار واستقطاب المنتديات العالمية، وما يحظى به قضاؤه من احترام، وما توليه سلطاته من اهتمام لقضايا العدالة.
وقال إن عقد المؤتمر جاء متزامنا مع مرور سنة على استقلال قضاء النيابة العامة بالمملكة المغربية عن السلطة التنفيذية، مشيرا إلى أن الدساتير المغربية المتعاقبة منذ أول دستور سنة 1961 إلى الدستور الخامس، سنة 1996، الذي ظل العمل جاريا به إلى منتصف سنة 2011، تنص جميعها على استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكن تطبيق هذا المقتضى الدستوري اكتفى بمنع تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في أحكام القضاة، دون أن يحول وقيام وزير العدل، وهو عضو بالسلطة التنفيذية، بمهام أساسية في المشهد القضائي.
وأكد عبدالنباوي أن وزير العدل هو الذي كان يرأس المجلس الأعلى للقضاء ويعتبر بمثابة الرئيس الأعلى لقضاة النيابة العامة، لذلك هو من يملك سلطة توجيه مهامهم وإعطائهم أوامر وتعليمات، وكانوا ملزمين قانونا بتنفيذها، ولذلك فإن القضاء بفرعيه قضاء الحكم وقضاء النيابة العامة قبل دستور 2011، كان يعتبر مجرد “مهمة” تملك السلطة التنفيذية صلاحيات هامة وأساسية في تسييرها وتدبير شؤون أعضائها، ولم يكن سلطة من سلطات الدولة.
ويأتي هذا المؤتمر، في وقت تسعى فيه العديد من الدول العربية خلال السنوات الأخيرة إلى السير على منوال دول عريقة وضعت لبنات الديمقراطية منذ قرون، عبر محاولات لترسيخ مفهوم علوية القانون وصون هيبة الدولة وتكريس مفهوم كوني أساسه القضاء العادل، كما أنه يترجم أن هذه المحاولات ظلت محتشمة إلى حد ما بسبب توجهات بعض الأنظمة أو بسبب عدم تطور عقليات القضاة المكبلة بتراكمات تاريخية يصعب تجازوها.
ورغم تشعب العلاقات والهنات التي ترافق المؤسسات القضائية في أغلب الدول العربية المكبّلة بالعديد من الإرهاصات التاريخية التي تحول دون التقدّم والانتقال بصفة ملحوظة خطوات إضافية نحو إرساء الديمقراطية، فإن مثل هذه المؤتمرات الدولية التي تحتضنها مدينة مراكش بما رافق ذلك من تجمع أسماء دولية مشهود لها بالكفاءة في تقديم مقاربات حول آليات وسبل إصلاح القضاء بإمكانها أن تكون لاعبا محوريا ولبنة أولى للتطوير ومراجعة كل النقائص والشوائب المتعلقة بنزاهة واستقلالية القضاء والعدالة.