أندرو برانسون.. حكاية القس الذي أربك العلاقات التركية الأمريكية
في أحد الأزقة الخلفية القديمة بمنطقة “ألسنجاك” في مدينة إزمير الساحلية الهادئة غرب تركيا، تقع “كنيسة القيامة”، تلك الكنيسة الصغيرة المكونة من طابق واحد ولا تتجاوز مساحتها عدة أمتار مطلية باللون الأصفر، ولا شيء يدل عليها سوى لوحة صغيرة جدًا رسم عليها الصليب وكتب عليها اسمها بالتركية “ديريليش كيليسيسي”، إلى جانب شباك صغير وضعت عليه مجموعة من الكتيبات التبشيرية ولوحة صغيرة كتب عليها “الكتب هدية”.
هذه الكنيسة الإنجيلية التي لا يتجاوز أتباعها الـ25 شخصًا، أنشأها قس أمريكي يدعى “أندرو برانسون” عام 2010 بعد أن انفصل عن كنيسة “يني دوغوش” التي التحق بها منذ قدومه إلى تركيا عام 1993، واستمر برعايتها حتى اعتقاله عام 2016 من قبل السلطات التركية، ليتحول تدريجيًا إلى أحد أبرز الشخصيات حول العالم في السنة الأخيرة، بعد أن سبب اعتقاله واحدة من أعظم الأزمات في تاريخ العلاقات التركية – الأمريكية.
ولد برانسون عام 1968في قرية “بلاك مونتان” في ولاية “نورث كارولينا” الأمريكية، وهي منطقة يعتبر فيها المعتقد المسيحي جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الراسخة للسكان هناك، حيث ينتمي برانسون وزوجته إلى كنيسة إنجيلية قبيل قدومهما معًا إلى تركيا عام 1993 حيث أنجبا ولدين في إزمير التركية.
لكن التاسع من دجنبر عام 2016 لم يكن يومًا عاديًا، حيث اعتقلت السلطات التركية القس برانسون في إزمير قبل أن تعتقل زوجته أيضًا لعدة أيام وتطلق سراحها، لتبدأ قصته بالتصاعد تدريجيًا وتتحول إلى أبرز قضية تتصدر أجندة السياسيين ووسائل الإعلام في البلدين طوال الأسابيع الماضية.
أخطر التهم التي واجهها برانسون تتعلق بمحاولة الانقلاب، حيث تقول السلطات التركية إنها تثبتت من وجود علاقة قوية بين برانسون وعدد من كبار المتهمين بالمحاولة الانقلابية، أبرزهم المتهم الفار “بكر باز”.
بشكل عام، وجهت السلطات التركية التي حققت مع برانسون لأسابيع طويلة إليه تهمًا متعددة تتمحور حول التجسس والتعاون وتقديم الدعم إلى إرهابيين ومنظمات إرهابية أبرزها “تنظيم العمال الكردستاني الكردي”، وما بات يعرف بـ”تنظيم غولن الإرهابي”، حيث جاء اعتقال برانسون عقب ثلاثة أشهر تقريبًا من محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا في الخامس عشر من يونيو 2016 واتهم غولن بتدبيرها.
وحسب لائحة الاتهام الرسمية التي قدمتها النيابة للمحكمة الجنائية العليا الثانية في إزمير، فقد اتهم برانسون رسميًا بـ”الحصول على معلومات سرية خاصة بالدولة لأهداف التجسس السياسي أو العسكري، ومحاولة القضاء على النظام الدستوري، وارتكاب جرائم باسم منظمتي (غولن) و(بي كا كا) الإرهابيتين”، حيث طالبت النيابة بعقوبة تصل إلى السجن لـ35عامًا بناء على التهم السابقة.
واحتوت لائحة الاتهام التفصيلية على الكثير من الشبهات الفضفاضة، مثل اتهامه باستغلال كونه رجل دين، بالترويج والدعاية للمنظمات الإرهابية والتركيز في التبشير على الأكراد وتقديم كنيسته تسهيلات لـ”متعاطفين” مع (بي كا كا)، والتقاط صور مع أنصار التنظيم وضبط أعلام للمنظمة بحوزته وخريطة لتركيا بحدود معدلة، وكذلك تهم محددة أكثر مثل تسجيل زيارته وتردده على مناطق التوتر الكردية، جنوب شرق تركيا وشمال سوريا، إلى جانب زيارة مخيمات اللاجئين السوريين والقيام بحملات تبشير هناك، إلى جانب تهم تتعلق بإيواء عناصر من (بي كا كا) فارين من السجون التركية ومساعدتهم في الحصول على طلبات لجوء خارج تركيا.
لكن أخطر التهم التي واجهها برانسون تتعلق بمحاولة الانقلاب، حيث تقول السلطات التركية إنها تثبتت من وجود علاقة قوية بين برانسون وعدد من كبار المتهمين بالمحاولة الانقلابية، أبرزهم المتهم الفار “بكر باز” الذي تقول إنه التقاه وهاتفه عشرات المرات، إلى جانب التهمة المتعلقة بضبط رسالة موجهة من برانسون لعسكري أمريكي عقب 6 أيام من محاولة الانقلاب كتب فيها: “كنا ننتظر وقوع أحداث تهز الأتراك، وتشكلت الظروف المطلوبة لعودة عيسى، ومحاولة الانقلاب صدمة، والكثير من الأتراك وثقوا بالعسكر كما السابق، وأعتقد أن الوضع سيزداد سوءًا، وفي النهاية نحن سنكسب”.
برانسون الذي ينفي جميع التهم الموجهة إليه، قال إنه “جاء إلى تركيا لإعداد طلاب للمسيح”، نافيًا بشكل قاطع أي علاقات له مع المنظمات الإرهابية، وعقب سلسلة جلسات وطلبات استئناف جرى ردها من قبل المحكمة التي قبلت لاحقًا بنقله إلى الحبس المنزلي لأسباب صحية، ولكن بشرط أن يتقلد أصفادًا إلكترونية ويخضع للرقابة القضائية.
وإلى جانب التهم المعلن عنها رسميًا، تحدثت وسائل إعلام تركية ومصادر غير رسمية عن سلسلة تهم أخرى لم يتم التأكد من دقتها، يتعلق بعضها بقيادة برانسون لشبكة تجسس واسعة تعمل لصالح المخابرات الأمريكية جمعت كمًا هائلًا من المعلومات عن منشآت عسكرية وأخرى حساسة داخل تركيا، وقيادة مخططات لإحداث حرب أهلية في تركيا.
ومهما كانت التهم الموجهة إلى برانسون، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رأى فيه فرصة ثمينة من أجل الحصول على ثمن ما من نظيره الأمريكي دونالد ترامب مقابل الإفراج عنه، فكان الطموح الأول بتسليم واشنطن فتح الله غولن، قبل أن يتراجع المطلب التركي إلى محاولة الإفراج عن نائب رئيس “بنك خلق” التركي الموقوف في أمريكا هاكان أتيلا، إلا أن الرئيس الأمريكي رفض تقديم أي تنازلات لأردوغان وفضل المواجهة مع تركيا لأسباب مختلفة تجمع الكثير من الجهات، على أن أبرزها محاولة كسب ترامب أصوات الجمهوريين المتدينين الذين ينتمي إليهم برانسون في الانتخابات النصفية للكونغرس في الخريف المقبل.
وبينما ما يزال الصراع السياسي والاقتصادي يتصاعد بين أنقرة وواشنطن، يبقى الهاجس الأول للسطات التركية في الوقت الحالي هو تأمين حياة الراهب الذي تقول مصادر مختلفة إنه يعاني من تراجع في وضعه الصحي وسط مخاوف من مخططات ومؤامرات قد تهدف إحداها إلى إيذاء الراهب لإشعال أزمة أكبر بين البلدين، وهو ما دفع السلطات التركية لفرض إجراءات أمنية تاريخية في محيط منزل برانسون في إزمير، وهو ما يدفع البعض أيضًا إلى الاعتقاد بإمكانية لجوء السلطات التركية للإفراج عنه لتجنب أحد هذه السيناريوهات التي ستكون نتائجها كارثية، لو حدثت.