من لا يزال يحلم بالاتحاد الأوروبي؟
كثيراً ما وظفت بروكسل ورقة «الانضمام للاتحاد الأوروبي» في تحديد علاقتها مع بعض دول شرق أوروبا، تستعين بها للضغط أو الإغراء، تمسك بطرف الحبل، وتسحبه في اتجاهها، كي تمرر ما يُناسبها من قرارات وتشريعات، وقد ازداد ضغط الاتحاد الأوروبي على دول الشرق، ولا سيما منها دول البلقان، في السنوات الماضية،
مع ارتفاع موجة الهجرة، وسعت إلى تحويلها لما يُشبه جدارا عازلا، كي تمنع وصول مزيد من طالبي اللجوء إلى غرب القارة، لكن المُعادلة بدأت تنقلب، ولم يعد الانضمام للاتحاد الأوروبي بالبريق نفسه، ولا يُغري الكثيرين، وما حصل في مقدونيا وفي البوسنة والهرسك، في الأيام الأخيرة، ينذر ببدء علاقة جديدة بين الطرفين.
نهاية الشهر المنصرم، جرى استفتاء في مقدونيا، من أجل تحويل اسم البلد إلى «مقدونيا الشمالية» بعد خصام يعود إلى أكثر من ربع قرن مع الجارة اليونان، يضم منطقة تحمل الاسم نفسه (ارتبطت تاريخياً باسم ألكسندر الأكبر)، وقد واجه المصوتون السؤال التالي: هل تقبل انضمام البلد إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي، وتوافق على الاتفاق المُبرم بين جمهورية مقدونيا وجمهورية اليونان؟». فمنذ سنوات، تفرض اليونان حق الفيتو، وتمنع مقدونيا من التقدم في مفاوضاتها مع هاتين الهيئتين، بحجة عدم قبولها لتسمية البلد، كما هو عليه الآن. الموافقة على السؤال المقترح للاستفتاء لم تكن كافية، فقد أُدرج شرط آخر، وهو أن تبلغ نسبة المشاركة 50٪ من إجمالي المسجلين، في القوائم الانتخابية.
الانطباعات الأولية، التي سبقت يوم الاستفتاء، كانت مُتفائلة، فاللعب على ورقة «الانضمام للاتحاد الأوروبي» كان ـ دائماً ـ ورقة ضغط وإغراء في آن، والانطباع الذي ساد، في اليونان، أن إشكالية تسمية البلد الجار ستنتهي، وتستعيد أثينا حقها الحصري في استخدام كلمة «مقدونيا»، لكن، في صناديق الاستفتاء، جرت أمور أخرى، غير متوقعة، صحيح أن المصوتين ﺑ»نعم» كسبوا الرهان، وحققوا نتيجة تتجاوز 90٪، لكن نسبة المشاركة لم تزد عن 36٪، لتجد الحكومة نفسها، في مأزق، فالبرلمان لن يستطيع التصويت على تغيير الاسم، في ظل عدم إتمام الاستفتاء، في الظروف المتفق عليها.
ولم يعد الانضمام للاتحاد الأوروبي بالبريق نفسه، ولا يُغري الكثيرين
موافقة المقدونيين على تغيير اسم بلدهم أو العكس ليست النقطة الأهم، بحكم أن الاستفتاء ارتبط أيضاً بشرط الانضمام للاتحاد الأوروبي، ومقاطعة المصوتين للصناديق تُعيدنا ـ بالضرورة ـ إلى سؤال: من لا يزال يحلم بالاتحاد الأوروبي؟ لقد سعت الحكومات المتعاقبة، في مقدونيا، منذ انفصالها عن يوغسلافيا سابقاً، عام 1991، للتقرب من بروكسل، لكن مساعيها لم تفلح، وعندما قررت بروكسل التقرب منها، ورفع الفيتو اليوناني، أدارت لها مقدونيا ظهرها. وبروكسل تعرف جيداً أهمية هذا البلد، في الوقت الحالي، نظراً لموقعه، فهو جزء من طريق البلقان، الذي يسلكه كل عام الطامحون للوصول إلى أوروبا الغربية، ومهادنتها ستكون من مصلحة الغرب، وهو أمر لن يتحقق، على الأقل في المستقبل القريب.
وليس بعيداً عن مقدونيا، جرت الأحد الماضي انتخابات تجديد المجالس الرئاسية والتشريعيات في البوسنة والهرسك. وهي واحدة من أكثر الانتخابات تعقيداً في أوروبا بأكملها. تتضمن انتخابات المجلس الرئاسي، الذي يضم ثلاثة رؤساء ممثلين للكتل الإثنية، بوسنيين، كروات وصرب، إضافة لانتخاب مجلس النواب، والمجالس المحلية. وككل مرة، عادت الوعود بضم البوسنة والهرسك إلى الاتحاد الأوروبي، في سلسلة الوعود التي تقدم بها المرشحون إلى الانتخابات، ففي بلد حيث نسبة البطالة تتجاوز 40٪ من القوى العاملة، يتراءى الاتحاد الأوروبي مخلصا من العطالة، وباباً لتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، لكن ذلك الوعد، الذي كان يثير حماسة، في الماضي، لم يعد يستميل مئات الآلاف من البوسنيين، الذين أرهقتهم الوعود المكررة، ومرت الانتخابات في جو من الكآبة، ومن تضارب في الآراء، فبينما أعلنت الهيئة المنظمة أنها سجلت رقم 3.3 مليون من المقبلين على التصويت، طرأ سؤال: كيف نصدق رقم كهذا في بلد لا يزيد سكانه عن 3.5 مليون نسمة؟ كما شاب العملية الانتخابية كثير من الانفلات، كغلق بعض المكاتب لساعات، وانقطاع الكهرباء على أخرى، وبينما أشارت تقديرات رسمية إلى نسبة مشاركة قاربت 53٪، ترد المعارضة بأن الرقم أقل من ذلك بكثير، ولا سيما مع ما عرفه اليوم الانتخابي من اضطرابات، بلغت أحياناً محاولات عنيفة لغلق أبواب مكاتب الانتخابات. وفي ظل هذا التراشق في الأرقام، تأكيدها من جهة ونفيها من جهة أخرى، فإن الشيء الأكيد أن البوسنة والهرسك، مع ما تعرفه من تعقيدات في شكل نظامها السياسي، الذي يؤهلها لخصومات سياسية، أكثر مما يضعها على خريطة الاستقرار، فإنها لن تنضم للاتحاد الأوروبي، فالانتخابات التي أُجريت كانت شكلية، في تغيير الأشخاص والأسماء، بينما نظام الرئاسة الثلاثي، موروث عن اتفاقية دايتون 1995، التي أوقفت الحرب، لكنها لم تبلغ تسوية سياسية تسهل من عمل القيادة السياسية في البلد.
لقد تحولت البوسنة والهرسك، في العامين الأخيرين، إلى مركز عبور للاجئين، فهي المحطة الأخيرة، قبل بلوغ كرواتيا، عضو الاتحاد الأوروبي، والوصول إليها يعني تحقيق الحلم الذي جاؤوا من أجله، وتعمل بروكسل على توفير الملايين سنوياً، والتنسيق اللوجيستكي، مع السلطات البوسنية، كي تشدد الرقابة على حدودها، وتمنع تسربهم، وتفرض الشرطة الكرواتية، من جهتها، إجراءات قاسية، وصلت في أحيان إلى إطلاق النار الحي، على من يجرؤ على تخطي الحدود، ومن الممكن أن البوسنيين فهموا الرسالة، أن بلدهم ليس سوى جدار عازل، لهذا فهم لا ينتظرون هدية من بروكسل، ولا طعماً منها، فالآلاف من الشباب يهجرون غرباً، كل عام، والأرقام الرسمية تقول إن نسبة الهجرة تتعدى كثيراً نسبتها أيام الحرب، والسبب ليس بالضرورة الوضع الهش في البلد، بل فقدان الأمل في تحسنه، وفي انضمام البلد إلى الاتحاد الأوروبي، لهذا لم تعد تغريهم الانتخابات المعطرة بالانضمام إلى حلف بروكسل، كما لم تغر المقدونيين، فهل بات على بروكسل أن تبحث عن وعود أخرى طازجة، لتمرير سياساتها في البلقان؟