حكام يمتطون صهوة الأكاذيب
الجمعة 2018/10/05
في المقابلة المطولة، التي أجراها البلجيكي بسكال فريبوس معه، يصف الروائي والرسام الأميركي هنري ميلر السياسة بأنها عمل البلهاء والأوغاد، وعندما قال له فريبوس: أنتم أيضاً تتحدثون في السياسة، أجابه ميلر: للحظة وجيزة، وإذن أنا أيضا غبي كالآخرين.. لا لست رجل سياسة.
وطفق يروي له: ذات مساء جاء حاكم كاليفورنيا جيري براون ليصافحني، دخل من هذا الباب مبالغاً في ابتسامته كما في ملصقات الانتخابات. فقلت له “سيدي الحاكم. قبل أن تعبر الباب يجب أن تعلم شيئاً: أنا أكره السياسة”، فأجابني بالمثل “أتفق معك. أنا كذلك”، لكنه كان حاكماً ويحلم أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة. إنه الشعب الذي يولي رئيساً على رأس الكارثة. لكن قبل ذلك ينبغي توفير ملايين الدولارات لتنصيب مجرم أبله أو الاثنين معاً، داخل البيت الأبيض، يا له من سيرك. هل هو كذلك في بلجيكا؟
جاء حاكم الولاية الطامع بالرئاسة إلى ميلر لغرض سياسي، ولكنه كذب في خضم العمل السياسي، عندما قال إنه يكره السياسة، ولكن ستكون كذبة الحاكم الأميركي براون بيضاء وبريئة لو أن ميلر رأى ما يجري في بلد كالعراق، وعاش تسونامي كذب حكامه، الذين بدأوا من كذبة وواصلوا أكاذيبهم وهم على كراسي الحكم وسينتهون كاذبين، فقد شرعت “المعارضة” العراقية بأحزابها السبعة التي حملتها عربة الاحتلال الأميركي تبث أكاذيبها عبر تقاريرها “المعلوماتية” إلى أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية والإيرانية، وضاعفت نشاطاتها التجسسية في أعقاب عام 1990 وتواصلت تقاريرها طوال سنوات الحصار.
وكان أحمد الجلبي ومحمد باقر الحكيم وإبراهيم الجعفري وموفق الربيعي وإياد السامرائي في مقدمه الركب، وقد أغدقت وكالة المخابرات الأميركية عليهم بمكافآت مجزية لقاء التقارير والأكاذيب، وتم صرف مبالغ كبيرة لهم من رصيد قانون تحرير العراق.
الأكثر أهمية أن جميع رؤوس المعارضة ومن يليهم من الحواريين والأنصار اخترع كل واحد منهم لنفسه ما يسمى “السيرة الجهادية” تتحدث عن بطولات وهمية وعن مزاعم بأنهم حكم عليهم بالإعدام جراء مقارعتهم لنظام صدام حسين. وكان أولهم إبراهيم الجعفري الذي نسج رواية درامية عن جهاده وكذلك فعل نوري (جواد المالكي)، بل إن أكاذيب الجلبي لوحدها شكلت لدى الرئيس جورج بوش سبباً كافياً لشن العدوان على العراق واحتلاله، كما يبدو في الظاهر.
ينبغي أن لا ننسى أن الصفة، التي اقترنت بأكاذيب هؤلاء ضد العراق هي أنهم جواسيس بالمعنى الفقهي للكلمة، وطبقا للوقائع التي يعرفها العراقيون، وقد برهنت دولة المحاصصة أنهم كذابون بامتياز. لم ننس بعد وعود نوري المالكي وتعهداته وكانت النتيجة أن أجمع العراقيون على رفع شعار “نوري المالكي كذاب” حتى أصبح الشعار أهزوجة شعبية يرددها المتظاهرون في كل مناسبة. والأكاذيب ذاتها تجدها لدى أصحاب الفتاوى من المعممين، التي حولها الشعب الغاضب إلى نشيد احتجاجي “باسم الدين باكونا الحرامية” وغيرها.
“المعارضون الجدد” لنظام صدام حسين كانوا على دراية بأن المخابرات الأجنبية تبحث عن أي ذريعة لتدمير العراق، وتلقى أغلبهم تشجيعا من هذه الدول لتصنيع أكاذيب مقابل أموال ومنح جنسيات ووعود بمناصب بعد “تحرير” العراق، وهذا ما جرى فعلا.
تظاهرت المخابرات الأجنبية التي احتضنت هؤلاء بتصديق كلامهم، وهو، في الواقع، تشجيع لهم للمضي أكثر في صنع الأكاذيب. فهل من المعقول أن لندن وواشنطن تُصدِّقان معارضاً عراقياً ترك وطنه منذ أكثر من ثلاثة عقود يقول لهما “إن العراق يملك سلاحاً قادراً على تدميرهما معاً خلال 45 دقيقة؟” وهل من المعقول أن المخابرات الألمانية تُصدِّق أن رافد الجنابي كان خبيراً في المنشآت الكيمياوية العراقية، ويعرف لوحده أسرار الأسلحة الكيمياوية العراقية؟
المسؤولية العظمى تقع على الشعوب، الشعوب التي تتلقى كما أكبر من الأكاذيب وتقبلها وتعرف أنها أكاذيب هي الشعوب الأسهل في التلاعب بها. هذا ما يجري في العراق. إذا ما فكرنا بقلب هذا الواقع المر، الذي يمر به العراق، علينا أن نبحث في التطور الثقافي والتاريخي والنفسي والديني للشعب العراقي. الآن أصبح الدين هو السلاح السري للحكام في ديمومة الأكاذيب وتاليا استمرار تسلطهم. التعليم الجذري العميق الذي يغوص في كل الاتجاهات، والثورة الثقافية، كفيلان بقلب الواقع المؤلم.
هناك من لا يريد أن يسمع الحقيقة. هناك مَن يريد أن يسمع ما يريد سماعه وهكذا يفلت الحكام بالكذب.