السالفينية” تتمدد في أوروبا وتخترق اليسار

السبت 2018/09/22

معضلة أوروبية

في وقت تبحث فيه أوروبا عن مخرج لأزمة الهجرة في ظل صعود اليمين المتطرف، هناك من يسير عكس التاريخ ويحن إلى حملات التبشير والتجارة المثلثة وإذكاء النظرة الدونية المقيتة لأفريقيا والمهاجرين.

وحفلت الفترة الأخيرة بالكثير من المواقف الشائكة بوجه الطريق الصعب الذي تسلكه أوروبا وأفريقيا معا من أجل تجاوز إرث ثقيل والتوصل إلى تسوية مرضية لملف الهجرة، يضع في الاعتبار الاستحقاقات القديمة لأوروبا تجاه القارة المستنزفة.

ولكن نجم اليمين المتطرف، زعيم رابطة الشمال الإيطالي ووزير الداخلية ماتيو سالفيني ما فتأ يدفع التكتل الأوروبي إلى الانعطاف يمينا وتبني خطوات أكثر تشددا في وجه المهاجرين، حتى لو اضطره الأمر إلى نبش جراح قديمة من زمن رحلات التبشير وتجارة العبيد والحرير في أفريقيا.

أحدث استراتيجيات سالفيني ضخ ما أمكن من التمويل لتشجيع الإيطاليين والأوروبيين على الإنجاب بدل العودة إلى فكرة جلب خيرة شباب أفريقيا كما كان الأمر سائدا عند جلب “العبيد” في القرون الماضية، على حد تعبيره. وهذه الإستراتيجية وضعت أيضا الدوري الإيطالي لكرة القدم تحت الضوء، لأنه المعني الأول بكلام سالفيني لتقييد عمليات استقدام اللاعبين الأجانب إلى إيطاليا على حساب اللاعبين المحليين.

لكن فكرة سالفيني الانتقائية تناست أن إيطاليا وأوروبا بأكملها مدينة اليوم لأفريقيا في تحقيق نهضتها الاقتصادية والصناعية في زمن الإقطاعية ومن بعدها الثورة الصناعية، وأن كلفة هذا الازدهار لاقتصاديات الدول الاستعمارية تمثلت في حصيلة لا تقل عن 12 مليونا من الضحايا والمختفين من الأفارقة بحسب المؤرخين.

الواقع أن تصريح سالفيني لا يعيد فقط تعرية أوروبا أمام سجلها القديم والمخزي في القارة، ولكنه يعيق في نفس الوقت أي تقدم لطي الماضي وتسوية الملفات العالقة في ما يرتبط “بالاعتذار والتعويض” عن حقبة طويلة من الانتهاكات الجسيمة.

وقد وقف المجتمع الدولي خلال نفس الفترة على مثالين على الأقل من ذلك التاريخ الأوروبي المظلم في القارة. ففي خطوة نادرة من الإيليزيه قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتذار الدولة الفرنسية لأرملة المناضل الشيوعي موريس اودان أحد المدافعين عن استقلال الجزائر، معترفا بجريمة التعذيب الممنهج حتى الموت الذي مارسته الدولة بحقه عام 1957.

كما طفت على السطح أيضا ذكرى المجازر الألمانية في مستعمرتها ناميبيا في بداية القرن الماضي والتي راح ضحيتها أكثر من 60 ألفا من سكان القبائل المحلية. ومع أن ألمانيا تصف بشكل رسمي تلك الجرائم بالإبادة الجماعية إلا أن الخلاف لا يزال قائما في المحاكم الدولية حتى اليوم بشأن مطالب أحفاد الضحايا بتعويضات واعتذار علني.

وفي ظل هذا الإرث الثقيل الذي تشترك فيه أغلب دول التكتل الأوروبي، فإن الأمل بتأسيس علاقات متوازنة بين أفريقيا وأوروبا- سالفيني يبدو أمرا معقدا، لا سيما خلال هذه الفترة التي تتصدر فيها النمسا الرئاسة الدولية للاتحاد، وهي حليف استراتيجي لروما في دعوتها المتشددة لتعزيز المراقبة على الحدود الخارجية الأوروبية، ورفض محاولات إعادة توزيع طالبي اللجوء داخل التكتل. ومثل هذه المواقف لا تبعث بإشارات مطمئنة إلى شريك تاريخي وأساسي في الهجرة والتنمية والأمن خصوصا مع تحرك مزدوج أيضا لقاطرة الاتحاد، باريس وبرلين، نحو جعل الأولوية المطلقة في الوقت الراهن لتيسير عمليات ترحيل المهاجرين المقيمين على غير الصيغ القانونية.

بالنسبة لباريس فهي تدعم فكرة نشر المزيد من قوات حرس الحدود التابعة لوكالة “فرونتكس” على أطراف أوروبا بواقع 10 آلاف جندي، بينما رحلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى شمال أفريقيا مرة أخرى، إلى الجزائر هذه المرة بعد تونس، للضغط من أجل التعاون في ترحيل الجزائريين المقيمين بطرق غير شرعية من ألمانيا وسد منافذ العبور الصحراوية باتجاه المتوسط.

والرسالة التي يمكن أن تساق إلى أفريقيا عبر هذه التحركات والأجندات المعلنة أن أوروبا تميل إلى غلق أبوابها أكثر فأكثر بوجه المهاجرين اليوم حتى أولئك المهاجرين النظاميين والاقتصاديين، وهي السياسة التي بات يتوافق حولها اليمين وجزء من اليسار على الأقل، في الآن نفسه.

وثمة الآن شعور ببداية تحول راديكالي لليسار الذي طالما كان خط الدفاع عن المهاجرين في قلب أوروبا، من أجل استعادة الزخم لدى الناخبين الساخطين بعد عام انتخابي مخيب في أرجاء أوروبا. ويجد هذا التحول صداه لدى حزب “دي لينكي” (اليسار) الألماني، والهدف المعلن هو تحجيم السياسات الليبرالية ومقارعة حركات وأحزاب اليمين المتطرف في الشوارع بعد أحداث مدينة “كيمنتس”، لكن عبر استخدام ورقة “المهاجرين الاقتصاديين” نفسها، وهو انحراف لا يبدو في جوهره بعيدا عن فكر سالفيني المتشدد.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: