الصين تتوغل اقتصاديا في شمال أفريقيا أمام أعين الغرب
تحت أنظار الدول الأوروبية والولايات المتحدة، تتمدد الصين اقتصاديا إلى الغرب وتحديدا في شمال أفريقيا، بعد أن تحولت الدول العربية في تلك المنطقة هدفا للمارد الآسيوي، الطامح إلى بلورة كافة الفرص الاستثمارية ضمن مبادرته الطموحة “الحزام والطريق” الجديد، على أرض الواقع.
تماشيا مع جو التفاؤل الذي طغى على أعمال القمة الصينية الأفريقية، التي عقدت في بكين بداية الشهر الجاري، أبرمت تلك الدول حزمة متنوعة من الاتفاقيات الاستراتيجية مع الصين لتغذية طموحاتها الاقتصادية، بعيدا عن الابتزاز الأوروبي، المستمر منذ عقود من خلال ربط مصير دول شمال أفريقيا بمزاجية الأوروبيين.
ولكن الأمر لا يتوقف على هذه النقطة، بل تريد دول المنطقة إيجاد شريان حياة اقتصادي مستدام للابتعاد قدر المستطاع عن حروب الرئيس الأميركي دونالد ترامب التجارية، والتي قد تكون في دائرتها دون أن تشعر.
ثمة أسباب كثيرة تدفع دول شمال أفريقيا لتعزيز شراكتها التجارية والاقتصادية الاستراتيجية مع الصين، ولعل من أبرزها إحساس دول المنطقة، المرتبطة منذ عقود طويلة بالاقتصاد الأوروبي، بتراجع وتيرة النمو في القارة، التي لم يعد بإمكان السوق فيها استيعاب الواردات القادمة من جنوب المتوسط.
ويبدو أن السبب الأكثر إثارة لاهتمام دول شمال أفريقيا في تحويل مسارها نحو الشرق هو أن الأجندة الاقتصادية الصينية تخلو من فكرة توسيع النفوذ السياسي أو العسكري، رغم تباين الآراء حولها.
تونس، التي تمر بأوضاع اقتصادية صعبة تريد رفع مستويات النمو الهشة، وهذا الأمر لن يتحقق مع اتفاقية التبادل الحر المبرمة منذ عام 1995 مع الاتحاد الأوروبي
هذه النقطة بالذات تروق للدول العربية كثيرا حتى تحد ولو مؤقتا من الوصاية الأوروبية الانتهازية، والتي استنزفت قدرات شركائها في الضفة الجنوبية لسنوات طويلة دون أن تستفيد دول شمال أفريقيا بالشكل المطلوب من علاقتها التجارية مع أوروبا.
من ينظر في نوعية الاستثمارات الصينية في أفريقيا بشكل عام، سيقف عند حقيقة مفادها أنها طالت معظم القطاعات الاستراتيجية في مسيرة التنمية في القارة التي بدأ الأوروبيون بالتفكير في استغلالها عبر خطة طويلة المدى طرحتها ألمانيا قبل فترة، كما أن المارد الصيني وهو يضخ المليارات من الدولارات في اقتصادات الدول الأفريقية، ليجني أضعافها في المستقبل، لم يرفع أبدا يافطة الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما يفعل الغرب.
الدول العربية نفسها استغلت الفرصة للانفتاح على سوق عملاقة كالصين لتعزيز نمو اقتصاداتها وتوسيع رقعة استثماراتها رغم اختلاف وضعياتها السياسية والأمنية، ويبدو أنها سئمت الشراكات التقليدية التي لطالما كان يحكمها التعامل بين عملاق أوروبي يضم دولا صناعية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبين مجموعة من الأقزام الاقتصاديين في أفريقيا.
من خلال الارتباط مع بكين تجاريا وفي كافة القطاعات المستدامة التي تهتم بالابتكارات وخاصة فيما يتعلق بنقل التكنولوجيا والمجالات الصناعية ذات القيمة المضافة، وفي مقدمتها القطاع اللوجستي وصناعة السيارات، ستؤسس دول شمال أفريقيا لمناخ أعمال مستقر يكون قبلة للاستثمارات الضخمة ستحرك عجلة التبادل التجاري.
الصين ومن أجل تنفيذ مشروعها، تعي جيدا أن منطقة شمال أفريقيا التي تضم 240 مليون مستهلك تزخر بالموارد الطبيعية في قطاعات الطاقة والمعادن والزراعة والثروتين الحيوانية والسمكية والسياحة والخدمات وغيرها، ما يؤهلها لأن تصبح في المستقبل وجهة جاذبة للاستثمارات الصناعية والتجارية تفتح لبكين الطريق أمام غزو أسواق جديدة في أفريقيا وأوروبا.
ستحظى الدول العربية وخاصة مصر وتونس والمغرب والجزائر بالنصيب الأوفر من التمويل الصيني المخصص لأفريقيا والبالغ حوالي 60 مليار دولار، من أجل تطوير البنية التحتية من طرقات وسكك حديد وتشييد موانئ ومناطق صناعية حرة حتى تكون قاعدة لغزو الأسواق العالمية في المستقبل.
تتفاوت أحجام الاستثمارات التي تنوي الصين ضخها في شمال أفريقيا باختلاف الأوضاع الأمنية والسياسية، فالسوق الليبية على أهميتها لا تزال بعيدة عن دائرة الاستثمارات الصينية بسبب الحرب، كما أن السودان لا يزال يبحث عن منفذ للخروج من أزمته بعد عقدين من الحصار الاقتصادي الأميركي من خلال بث تطمينات للصينيين بتحسين مناخ الأعمال.
ثمة أسباب كثيرة تدفع دول شمال أفريقيا لتعزيز شراكتها التجارية والاقتصادية الاستراتيجية مع الصين، ولعل من أبرزها إحساس دول المنطقة، المرتبطة منذ عقود طويلة بالاقتصاد الأوروبي، بتراجع وتيرة النمو في القارة
في المقابل، استفادت مصر وتونس والمغرب والجزائر بدرجات متفاوتة من الاتفاقات الجديدة مع الصين خاصة وأنها تتوقع أن تجني المنطقة الحرة، التي شيدتها بكين في شمال أفريقيا أكثر من 4 تريليونات دولار بحلول العام المقبل، وهذا الأمر يعتبر دافعا قويا بأن تكون العلاقات في قمتها وتجعل أوروبا في موقف محرج للغاية.
ورغم أن المغرب، الذي ظل وفيا لشراكاته التقليدية، كان من آخر اهتمامات بكين إلى حدود 2016، وفق مجلة “غلوبال إنسايت” الأميركية، لكن النظرة الصينية للبلد الأفريقي تغيرت كثيرا بعد زيارة العاهل المغربي الملك محمد السادس لبكين، ويعقد الصينيون حينها شراكة استراتيجية مع الرباط في شتى المجالات.
قد تتجاوز العلاقات الصينية المغربية في مستواها علاقات الصين مع مصر التي انتزعت صفقات جديدة تتجاوز قيمتها 19 مليار دولار. ومع ذلك تظل القاهرة معبرا مهما واستراتيجيا للتجارة الدولية بفضل قناة السويس، وهذا ما تريد الاستفادة منه الصين بالفعل عندما بدأت في تحريك دبلوماسيتها الاقتصادية تجاه المصريين حتى يحقق الجانبان طموحاتهما التجارية على أسس صلبة ومستدامة ومتنوعة.
لم تكن تونس بعيدة أيضا عن شعاع الصين، كون الطرفين في أمسّ الحاجة لبعضهما ضمن طريق الحرير الجديد، فتونس، التي تمر بأوضاع اقتصادية صعبة تريد رفع مستويات النمو الهشة، وهذا الأمر لن يتحقق مع اتفاقية التبادل الحر المبرمة منذ عام 1995 مع الاتحاد الأوروبي، أو اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق (أليكا) التي لا تزال فوق طاولة التفاوض، وبالتالي فإن الجنوح لشريك ينظر لها نظرة أفقية لا عمودية سيحقق لها طموحاتها.
من المؤكد أن ازدياد النفوذ التجاري الصيني في تلك المنطقة المهمة التي ضمن مبادرة الحزام والطريق الجديد سيثير حفيظة أوروبا، بدرجة أكبر، والولايات المتحدة بدرجة أقل، في الفترة المقبلة بعد أن صارت تجد نفسها، وخاصة دول الاتحاد الأوروبي، في مواجهة منافسة اقتصادية شرسة في المناطق التي كانت إلى وقت قريب مجال نفوذها التاريخي سياسيا وعسكريا واقتصاديا.