الدارجة بالمقررات المغربية و حكومة لغة الخشب
Sep 14, 2018
كلّما شغلت قضية جدّية الرأيَ العام المغربي، إلا وحاول البعض تحريف النقاش الدائر في وسائل الإعلام ومنتديات التواصل الاجتماعي، وتركيزه على قضايا هامشية.
ما حصل أخيرًا حول إقحام مفردات من العامّية المغربية في كتاب مدرسي خير مثال على ذلك، حيث قلّـل متحدّثون عبر البرامج التلفزيونية من الموضوع، مُعتبرين أن إدخال بضع كلمات لا يستدعي كل هذه الزوبعة. غير أن الانتباه إلى تصريحات المدافعين عن اللهجة الدارجة يوضح أن ثمة مخططا مدروسا لتغيير الكتب المدرسية، وأن تلك الكلمات القلائل المُستقاة من العامّية المغربية ليست سوى محاولة لجسّ نبض المجتمع المغربي حول مدى تقبّل الأمر أو رفضه.
فمن جهة، نجد مسؤولا من وزارة التعليم يكرر في كل تصريحاته القول إن استعمال مفردات عامّية أملته «مبرّرات بيداغوجية». وطبعًا، فمن شأن هذا المبرر أن يكون مطية لمواصلة النهج نفسه بتوسيع مجال المفردات الدارجة في الكتب المدرسية.
ومن جهة ثانية، ثمة عضو في «المجلس الأعلى للتعليم» يُعبّر عن ابتهاجه بهذه المبادرة، ويعتبرها خطوة ستتلوها خطوات أخرى لاعتماد الدارجة في المدرسة المغربية. والواقع أن هذا العضو يقدّم نفسه كـ«عُرّاب» لهذا المشروع أو المخطط، فلا عجب إن وجدناه هذه الأيام يملأ وسائل الإعلام المحلية، بل إن اسمه أصبح متداولا حتى على مستوى الإعلام العالمي. هناك أكثر من سبب لذلك: فهو أوّلاً يُوصَف بكونه مُقرّبًا من الدوائر العليا، وهو ثانيا من أنصار الفرنكفونية كتوجّه وكسياسة وكمخطط، وهو ثالثا من الفاعلين في الاقتصاد وسوق الإعلانات والقروض الصغرى.
وقبل هذا وذاك، عُرِفَ خلال الشهور الأخيرة بأنه من المدافعين عن الحريات الفردية، وضمنها بالخصوص حرية الجسد والجنس، حيث أدلى بتصريحات عبّر فيها عن تأييده للشذوذ بين الرجال فيما بينهم وبين النساء أيضا، كما دافع عن العلاقات الجنسية خارج الزواج. ولكنه، بقدر ما يستميت في الدفاع عن حرية الجسد، فإنه يُعارض بشدة تعدد الزوجات، وهو ما أثار سخرية بعض مقدمي برامج «شو» العربية، حيث تساءلوا: كيف يؤيد شخص الحرية الفردية ويدعو إلى أن يعاشر رجل امرأة أخرى بدون عقد زواج، وفي الوقت نفسه يعارض أن يتزوج المسلم امرأة ثانية وفق إطار قانوني رسمي؟ ليجيب أولئك الإعلاميون: هكذا هم السائرون على نهج التحرر الغربي، ينتصرون للفساد الأخلاقي، ويرفضون التزام المرء بقيمه ودينه.
ومن ثم، يتبيّن أن «عُرّاب» الدارجة هو نفسه «عُرّاب» الحقوق الفردية، كما يتصورها هو أو كما أمليتْ عليه. غير أن هذا «العُرّاب» لم يستطع ـ حتى الآن ـ قبول التحدي الذي طرحه عليه الشيخ مصطفى بنحمزة عبر فيديو مسجل، وهو فهم الدارجة المغربية فهما جيدا. إنه يعادي العربية الفصحى لأنه لا يفهمها، ويدّعي الدفاع عن الدارجة (التي لا يفهمها هي كذلك) ليجعلها مطية للإجهاز على لغة الضاد. فاللغة المستعملة عند ذلك «العراب» هي الفرنسية، بها يفكّر ويتحدث مع المقربين منه، وبها يتعامل مع رجال المال والأعمال.
هل يغار على التعليم حقا؟
بيد أن هذا الشخص الذي يحاول أن يصوّر نفسها متحررا ومتفتحا، تضيق نفسه عن سماع النقد والرأي المخالف، لدرجة أنه قد يلجأ إلى قذف معارضيه بأبشع النعوت، فقد ردّ على الذين انتقدوا حماسه الزائد لإدراج العامّية في الكتب المدرسية بالقول: «القافلة تسير والكلاب تنبح»، طبعًا لم يقلها باللغة العربية التي لا يقتنها، ولا بالدارجة التي يزعم الدفاع عنها، بل قالها باللغة الفرنسية. فهل يعقل أن هذا الرجل الذي يقول أيّ كلام، ويتصرف كما لو أنه يمتلك صلاحيات مطلقة، يقوم بقذف المغاربة بذلك النعت، وهو الذي يتقاضى مرتبا عاليا من مؤسسة رسمية تُموّل من طرف دافعي الضرائب؟ ألا تتطلب المسألة إقالة عاجلة من منصبه من طرف الدوائر التي يزعم القرب منها؟ وقبل هذا وذاك، هل سينفّـذ الغاضبون من تصريحاته ما وعدوا به، أي رفع دعوى قضائية ضده؟
ولأنه يلعب على مختلف الحبال، ويتلوّن بحسب الظروف، فإنه يحاول هذه الأيام إعطاء تأويل خاص لتصريحه «الكلاب تنبح» بالقول إن كلامه كان ردًّا على الذين يسبّونه ويقذفون أُسرته، في حين أن التصريح المسجل يوضّح أنه كان يعلّق على مُنتقدي دعوته إلى الدارجة.
والواقع أنه لو كان الشخص المعني صادقا في غيرته على التعليم المغربي وعلى مستوى التلاميذ المغاربة كما يزعم، لركّزَ اهتمامه على الظروف التي يدرُس فيها الكثير من أبناء الأرياف والجبال المنتمين للطبقة الفقيرة، حيث تشكو المدارس (البعيدة أصلا عن أماكن السكنى) من إهمال فظيع، فلا سقفَ مكتملاً يحمي التلاميذ من القرّ والمطر، ولا مقاعد وطاولات جيدة، ولا إضاءة كافية ولا مراحيض مجهزة.
حكومة لغة الخشب !
كان الله في عون الإعلاميين الذين يحضرون الندوات الأسبوعية للوزير الناطق باسم الحكومة المغربية بعد كل اجتماع للوزراء، حيث يعودون بخفي حنين في كل مرة. فالرجل ـ كما يبدو ـ تعلّم من السياسة حكمة لا تقدر بثمن: إتقان لغة الخشب التي «لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة» كما قيل. إنه لا يقدم توضيحات وافية تشفي غليل الرأي العام، ولا سيما حول قضايا الساعة ذات الصبغة السياسية أو الاجتماعية أو القانونية. حصل ذلك منذ عدة أسابيع بعد إقالة وزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد، وحصل منذ أيام بعد حذف الوزارة المكلفة بالماء مما أدى إلى إعفاء الوزيرة شرفات أفيلال المنتمية لحزب «التقدم والاشتراكية» الحليف الرئيسي لحزب «العدالة والتنمية» الذي يقود الحكومة. ولا يعلم الناس إن كان هذا الإعفاء مجرد قصّ لجناح للحزب الشيوعي سابقا الذي يؤدّي ضريبة وقوفه إلى جانب رئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران في لحظة شد وجذب مع خصومه؛ أم أن الإعفاء مقدمة لإلغاء عدد من الحقائب الوزارية التي مُنحت للأحزاب الحكومية وفق منطق إرضاء الخواطر، قبل أن يركن أصحاب تلك الحقائب من الوزراء إلى الانزواء في مناطق الظل، والاستمتاع بحياة الأشباح مقابل راتب شهري سمين وامتيازات متعددة.
هؤلاء لا يتحدث عنهم زميلهم الناطق باسم الحكومة الذي استمد «لغة الخشب» من رئيسه في الحزب والحكومة معًا، سعد الدين العثماني، الطبيب النفساني أيضا، حيث لا يخرجان عن النص المهيأ سلفا بمنتهى الدقة، وكأن لسان حالهما معا يقول: «ما همّا اللي قالوا لي»، اقتداء بالعبارة الشهيرة التي كانت ترددها فردوس عبد الحميد في المسلسل المصري الرائع «أنا وإنت وبابا في المشمش»!