العاهل المغربي يدعو من فاس إلى نظام جديد للسلم العالمي
الخميس 2018/09/13
أجمع مسؤولون وأكاديميون وباحثون في الفكر الديني والأمن والسياسة على الأدوار التي يمكن أن يلعبها الحوار بين الحضارات في الحد من التوترات التي يشهدها العالم وما لثقافة السلم من تأثير إيجابي على الأمن والاستقرار، وتطرق هؤلاء عند اجتماعهم في الدورة الثانية للمؤتمر الدولي حول حوار الثقافات والديانات، التي احتضنتها مدينة فاس بين 10 و12 سبتمبر الجاري إلى موضوع “سؤال الغيرية”، إلى ما تقوم به المملكة المغربية في هذا الصدد.
احتضنت مدينة فاس بين 10 و12 سبتمبر الجاري الدورة الثانية للمؤتمر الدولي حول حوار الثقافات والديانات، حول موضوع “سؤال الغيرية” وفي هذا الصدد أكدت وزارة الشؤون الخارجية والتعاون على الدور الريادي للملك محمد السادس، في مسلسل الحوار بين الثقافات والديانات، كما يندرج في إطار استمرارية نشاط الفرانكفونية طبقا لإعلانات مؤتمرات قمة رؤساء الدول والحكومات.
وفي رسالة للمشاركين أكد العاهل المغربي الملك محمد السادس، أن تنظيم هذا المؤتمر في المملكة المغربية ليعد شهادة من المجموعة الدولية، على التزام المغرب الموصول بالقيم التي يمثلها حوار الثقافات والديانات، واعترافا بالدور الرائد الذي يضطلع به بلدنا، بوصفه عضوا مؤسسا لتحالف الحضارات، وهي المنظمة التي تعنى بحشد جهود الفاعلين على الصعيدين الوطني والدولي، من أجل تعزيز قيم السلم والسلام.
ويرتبط تعايش الثقافات ارتباطا وثيقا بثقافة الحوار، فحوار الثقافات كما جاء في رسالة الملك محمد السادس، يقتضي أن تتفاهم الشعوب في ما بينها، عبر إقامة حوار صادق ودائم، وهو ما يطبع التجربة المغربية، حيث تجسد التعايش بين الثقافات من خلال وحدة المغرب، التي تشكلت بانصهار مكوناته العربية والأمازيغية والصحراوية الحسانية، الغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.
وشدد العاهل المغربي على أن النظام الجديد للسلم العالمي هو ما نرجو أن نسهم في بنائه جميعا على أساس مبدأ التعايش وقبول التعدد والاختلاف، بما يسمح بالبناء والتطوير، وتوطيد الأمن والنمو والازدهار.
وفي هذا الإطار اعتبرت مونية بوستة، كاتبة الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون، الملتقى جد مهم كونه يعمق مبدأ الحوار والتلاقي بين الشعوب المختلفة رغم التشابك الذي خلقته تكنولوجيا التواصل، قائلة “نحن نحتاج إلى حوار بناء ومنفتح، وما ميز هذه الدورة هو تأكيد الملك محمد السادس على إقامة نظام جديد للسلم مبني على الانفتاح على الآخر من أجل البناء والسلام وتبني خطة عمل ومنظومة للتتبع كي يكون عملنا المشترك موحدا وذا فعالية للحد من تأثير الصراعات الأيديولوجية والإثنية”.
ومن بين أهداف هذا المؤتمر تقديم حلول واقعية للتحديات الراهنة، وتحديات نموذج مجتمع يقوم على احترام الهويات الثقافية، وتغذية برامج وأنشطة المنظمة اﻹسلامية للتربية والعلوم والثقافة والمنظمة الدولية للفرانكفونية.
ومن هنا أكد الملك محمد السادس في رسالته للمشاركين في ملتقى فاس، أن المغرب كان دائما وسيظل ملتزما بنهج الإسلام المعتدل الذي يقوم جوهره على المبادئ الكونية السامية، ومن ضمنها قيم التسامح والحوار. فالدين الإسلامي الحنيف يقوم على تقبل الآخر وعلى الوسطية، وينبذ الإكراه ويحترم التعددية، تماشيا مع المشيئة الربانية.
ويقول الملك محمد السادس “لا فرق في المغرب بين المواطنين المسلمين واليهود، حيث يشارك بعضهم بعضا في الاحتفال بالأعياد الدينية، كما يؤدي مواطنونا اليهود صلواتهم في بِيعِهِمْ، ويمارسون شعائرهم الدينية في أمن وأمان، لا سيما خلال احتفالاتهم السنوية، وأثناء زياراتهم للمواقع الدينية اليهودية، ويعملون مع أبناء بلدهم من المسلمين من أجل صالح وطنهم الأم”.
أما بالنسبة للمسيحيين العابرين أو المقيمين في المغرب، فقد كان لهم على الدوام الحق في إقامة شعائرهم الدينية في كنائسهم، وكان من أجدادنا السلاطين من أهدى أرضا لبناء كنيسة ما تزال مفتوحة للمصلين إلى يومنا هذا، ولقد أبان المجتمع المغربي عبر التاريخ، عن حس عال من التفاهم المشترك وقبول الآخر، في التزام ثابت بضرورة الحفاظ على الذاكرة المشتركة للتعايش والتساكن بين أتباع الديانات الثلاث، خاصة خلال الحقبة الأندلسية.
المغرب يلتزم ضمن المنظمة الدولية للفرانكفونية بالعمل على إنعاش ثقافة السلم، وكذلك توحيد الاهتمامات
وأشار المنظمون إلى أنه إذا كان تثمين الهويات الثقافية والتفاعلات والإغناء المتبادل لمختلف التعبيرات الثقافية يشكل الأهداف الأولى للمنظمة الدولية للفرانكفونية، فإن تحقيق هذا الهدف المثالي أصبح اليوم أمرا بالغ الأهمية، على اعتبار أن الميل للانغلاق على الذات بدأ يتغلب على الانفتاح وتعددية التعبيرات الإنسانية المشتركة، بل إن المظاهر الأكثر فتكا لهذا الانغلاق تحتل اليوم صدارة الساحة الدولية.
ويتطلع العاهل المغربي لأن يشكل هذا الاجتماع اليوم ردا قويا لمواجهة جماعية لنزوعات التشكيك في القيم وتحريف المرجعيات والانطواء على الذات والغلو وكراهية الأجانب والتعصب والتطرف.
وقد اعتمد المغرب سياسة شاملة تميزت بتنمية فضاءات عدة لحوار الثقافات والأديان والحضارات على الصعيد الوطني، وأطلق إصلاحات كبرى شملت بالخصوص توسيع وتوطيد الحقل الديمقراطي وعصرنة التربية وتدبير الحقول الدينية والثقافية وإصلاح قطاع القضاء وتخليق الحياة العامة، وذلك من أجل تطوير نموذج مجتمع عربي إسلامي منفتح على جميع القيم العالمية. وعلى الصعيد الإقليمي والدولي ما فتئ المغرب يشجع المبادرات التي تم إطلاقها بهدف تعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات والأديان.
ويعرف هذا اللقاء مشاركة وزراء وخبراء جامعيين من مختلف البلدان الناطقة باللغة الفرنسية ومنظمات دولية وإقليمية وجمعيات للشباب وأخرى تدعو للنهوض بحقوق النساء ومسؤولين سياسيين وعدد من مكونات المجتمع المدني، بغرض تبادل الرؤى حول إشكالية الحوار بين الثقافات والديانات.
وأشاد مدير إدارة المنظمة الدولية للفرانكفونية أداما أوان، بالتشبث الوثيق للملك محمد السادس ودعمه المتواصل لمسألة حوار الثقافات والأديان، مبرزا المكانة التي تحظى بها المملكة المشهود لها منذ قرون كفضاء غني بتنوعه الحضاري، والتبادل بين الثقافات والمجتمعات، وتداول الأفكار، وغني بتقاليده الإنسانية والتسامح والانفتاح والسلام.
ومكنت دعوات النسخة الأولى من مؤتمر فاس، المنعقد في أكتوبر 2013، من إرساء إطار تشاوري يدعو لمواصلة التفكير حول الرهانات الحالية من أجل اعتماد استراتيجية ملائمة لخصوصيات الفضاء الفرانكفوني بمختلف مكوناته، وذلك، أساسا، من أجل مواجهة كل أشكال التطرف والقضاء على انحرافات الهوية والتعصب الديني.
ويهدف المؤتمر إلى تقديم حلول واقعية للتحديات الراهنة، وتحديات نموذج مجتمع يقوم على احترام الهويات الثقافية، وتغذية برامج وأنشطة فاعلي منظمة الإيسيسكو والمنظمة الدولية للفرانكفونية.
ومن هنا، يؤكد العاهل المغربي أن الحوار بين الثقافات والديانات، ليس مفهوما مجردا من قبيل الترف الفكري، ولكنه نهج لا تكفي فيه الإرادة وحدها، بل يستمد معناه الحقيقي من منطلق الإيمان العميق، الذي يقتضي الالتزام القوي والعمل الجاد، وربط الأقوال بالأفعال.
ومن جهته، سجل رئيس الجامعة الأورو- متوسطية بفاس مصطفى بوسمينة أنه في عالم معولم يسيطر فيه الفكر المادي، وعولمة تحاول تنميط ومحو الهويات، سطر المغرب طريقه ورسم مستقبله نحو الحداثة من دون التخلي عن جذوره ومسخ ثقافته وتحوير تاريخه ومحدداته، مؤكدا أن المغرب وجد نفسه مع مرور الزمن أرضا للتنوع والتعددية.
وتابع مصطفى بوسمينة، أن المملكة تتمثل اليوم كواحة للاستقرار تدعو للسلم والوسطية اللذين يرمزان للدين السمح، رافضة لكل أشكال التطرف والغلو والإرهاب بكل أشكاله، وذلك ليس من خلال مقاربة أمنية فحسب والتي تبقى ضرورية ولكن، أيضا، بتكوين أئمة وبالتربية داخل المدرسة.
ويتطلب الحوار الجاد والمثمر بين الحضارات إرادة سياسية واعية، حسب عبدالعزيز بن عثمان التويجري مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، مشيرا إلى أنه في ظل هذا التوتر القائم اليوم فإن الرسالة الملكية بمثابة منهج للعمل يجب أن يتخذه القائمون على هذا المؤتمر أساسا للانطلاق نحو المستقبل بتعاون مع منظمات عالمية أخرى.
وباحتضانه لهذا اللقاء الدولي، يؤكد المغرب التزامه ضمن المنظمة الدولية للفرانكفونية للعمل بزخم متجدد، وبإرادته في تشجيع روابط جديدة قائمة على إنعاش ثقافة السلم والعيش المشترك ضمن فضاء يتقاسم معه، ليس فقط مجموعة من القيم واللغة الفرنسية، لكن كذلك الاهتمامات والتحديات.