يوسف العمراني مدشناً عصر القطيعة المغربية مع الدبلوماسية التقليدية
السبت 2018/09/08
ليس سرا أن صناعة القرار المرتبط بالعلاقات الخارجية بالأساس في الدولة المغربية تتم بالضرورة التاريخية والحاجة السياسية والمشروعية الدستورية والدينية، داخل القصر الملكي المغربي، ولهذا يكون المكلف بالمهام الدبلوماسية شخصا يتمتع بخصائص معينة تؤهله للاضطلاع بالملفات والمهام الحساسة المرتبطة بالأمن القومي والهدف ألا ترتهن تلك الشخصية كذلك بحسابات سياسية ضيقة يمكن أن تقوض العمل الدبلوماسي من أساسه.
ويعتبر يوسف العمراني مؤهلا لهذه المهنة بامتياز إذا قرأنا اختياره من طرف العاهل المغربي الملك محمد السادس، في 20 غشت 2018، ليكون على رأس البعثة الدبلوماسية سفيرا في جنوب أفريقيا، وما تمثله هذه الخطوة من دقة في اختيار التوقيت والشخصية.
وسيلعب العمراني في ميدان يحتاج معه إلى خبرته الدبلوماسية كفن يمارسها وسط عدد من الاختيارات والاحتمالات المتغيرة في سياق وضع إقليمي ودولي مأزوم على عدة واجهات تميزه الحروب المتنوعة ليس آخرها الحرب على الإرهاب والمجاعة والفقر وهشاشة بعض الدول ما انعكس على العلاقات الدولية بالأساس.
مهمة دقيقة للغاية
جاء قرار الملك محمد السادس تعيين العمراني سفيرا بجنوب أفريقيا مترجما لتوجه المملكة الجديد في علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع مجموعة من الدول تدافع عن أطروحة البوليساريو ومنها بريتوريا التي كانت ضد استعادة الرباط لمقعدها بالاتحاد الأفريقي، قرار جاء أيضا كاستمرار لما دار من مباحثات بين الملك محمد السادس والرئيس الجنوب أفريقي السابق جاكوب زوما على هامش القمة الأوروبية الأفريقية التي احتضنتها الكوت ديفوار شهر نوفمبر 2018.
سيملأ العمراني موقعا كان شاغرا لمدة اثنتي عشرة سنة تقريبا. ولهذا ستكون مهمته جد دقيقة، إذ سيكون عليه تجاوز ما كانت عليه العلاقات الثنائية وترجمة عمليا ما اتفق عليه العاهل المغربي والرئيس الجنوب أفريقي من رفع مستوى بعثتيهما الدبلوماسيتين والحفاظ على اتصال مباشر والانطلاق ضمن شراكة اقتصادية وسياسية وصفت بالخصبة، ستكون أساسا لعلاقات قوية ودائمة ومستقرة.
وليست هذه المرة الأولى التي يتولى فيها يوسف العمراني منصب سفير بل تم تعيينه في العام 1992 قنصلا عاما للمملكة المغربية في برشلونة، وسفيرا لدى جمهورية كولومبيا. كما تقلد نفس المنصب لدى كل من جمهورية الشيلي، وجمهورية المكسيك، لكن المهمة الحالية ليست سهلة نظرا لدعم بريتوريا القوي لأطروحة البوليساريو الانفصالية، ومطلوب منه تجاوز هذه المعضلة التي تتطلب جهدا إضافيا واختيار فريق عمل نشيط لمعالجة كافة الإشكالات التي قد تعصف بالتقارب الذي وصف بالجدي.
من وزير إلى مكلف بمهمة
هناك خيارات كثيرة أمام العمراني يجب معالجتها لإنجاح مهمته ومنها إقناع القادة في جنوب أفريقيا بوجوب فصل الملفات بما يتناسب مع تعميق العلاقات الثنائية واحترام السيادة الوطنية. ويذهب يوسف العمراني إلى جنوب أفريقيا سفيرا محملا بمشاريع ورؤية واضحة حول ماذا يريد كمسؤول يبدع الحلول ويتفادى المطبات والعراقيل، فتواجده بأقصى جنوب القارة السمراء ليس اعتباطيا بل هو مكلّف بتوضيح رؤية المغرب كشريك حيوي صادق في تصوراته حول التنمية المشتركة والتعاون على مستوى جنوب جنوب.
فتحرك المغرب نحو القارة الأفريقية التي تشكل عمقا استراتيجيا يأتي في سياق إقليمي ودولي جد دقيق يحتاج إلى عقليات كفؤة وتعرف كيفية تدبير الملفات، وهو ما يعيه السفير والدبلوماسي يوسف العمراني كونه يؤمن بأن المملكة سجلت قطيعة تاريخية وحاسمة مع معادلات ونماذج التعاون التقليدية، وتدشن لشراكة مبنية على تنمية مشتركة ذات قيمة مضافة، أساسها خلق ثروات يتقاسمها الجميع.
انضم العمراني إلى الفريق الحكومي الذي ترأسه عبدالإله بنكيران، وكان محسوبا على حزب الاستقلال. وبانسحاب هذا الأخير من الحكومة في العام 2013 لم يتم الاستغناء عن هذا الرقم الصعب في الآلة الدبلوماسية المغربية بل استطاع أن يبرمج عدة محاضرات تعرّف بالقضايا الوطنية من ملف الصحراء إلى مقاربة المغرب في محاربة الإرهاب وغيره من المجالات التي برع في توضيحها في جل المنتديات الدولية التي حضرها.
يتحرك العمراني المولود سنة 1953، في مجال العلاقات الدولية والدبلوماسية المباشرة متأبطا إجازة في العلوم الاقتصادية من جامعة محمد الخامس بالرباط ودبلوما في التدبير من معهد الإدارة في بوسطن بالولايات المتحدة، ليشحذ معارفه بخبرة عملية في المجال بعد التحاقه بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون، ومن ثم اشتغاله ملحقا بديوان وزير الشؤون الخارجية والتعاون، ليلتحق كموظف دولي بالمركز الإسلامي لتنمية التجارة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
وبعد سنوات من التدرج الوظيفي التحق بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون سنة 2003، ليتم تعيينه كاتبا عاما إلى غاية انتخابه أمينا عاما للاتحاد من أجل المتوسط في يوليو 2011 خلال اجتماع لكبار مسؤولي هذه المنظمة في برشلونة مقر المؤسسة.
وكان التعويل الأوروبي على العمراني كبيرا لتطبيق مشاريع التعاون بين حكومات البلدان الـ15 الموجودة على ضفتي المتوسط والـ28 بلدا المكونة للاتحاد، ومواكبة الإصلاحات ولتطوير المشاريع الأورو متوسطية والتحركات في جنوب المتوسط في العديد من القطاعات التي تحظى باهتمام خاص كالشباب، وبخاصة من خلال مشروع المكتب المتوسطي للشبيبة والمجتمع المدني، والتنمية الاقتصادية، والطاقات المتجددة، والحماية المدنية.
ولم يستمر العمراني طويلا أمينا عاما للاتحاد بعدما تم اختياره وزيرا منتدبا للخارجية في حكومة بنكيران ليخلفه منذ 2012 المغربي فتح الله السجلماسي، فقد كان الاتحاد يشكل حسب العمراني فرصة جديدة وفريدة لتعزيز الشراكة بين الحكومات والمجتمعات المدنية ومجالس النواب بين مختلف البلدان، وكان يعمل أثناء ولايته القصيرة على إحياء مشروعاته وإعادة التفكير مليا في سياساته وأهدافه باعتبار هذه المؤسسة أداة أساسية لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
محيط متوتر
كان العمراني دائما مشغولا بما يمكّنه من أن يعزز التعاون بين ضفتي المتوسط والعمق الأفريقي، ويلح على الاتحاد الأوروبي بالتركيز على إبداع آليات جديدة تحقق المصالح المشتركة مع فضائه المتوسطي الذي يعتبر المغرب واحدا من أبرز مكوناته، لأجل تحقيق التقارب والبناء الجماعي لإرساء فضاء حقيقي للسلم والاستقرار.
ويعترف الدبلوماسي المغربي بأنه على الرغم من بعض التقدم الذي أحرزته سياسة الجوار الأوروبية والاتحاد من أجل المتوسط لا نزال بعيدين عن هذا الفضاء المتميز بالاستقرار والازدهار المشترك وذلك راجع أساسا إلى عدم ملاءمة بعض الآليات للتغيرات السياسية العميقة الحاصلة في حوض البحر المتوسط، لذلك دعا الأمين العام السابق للاتحاد من أجل المتوسط إلى المزيد من العمل والواقعية عند وضع سياسة جوار أوروبية حقيقية تعتمد على رؤية سياسية واقتصادية تعاقدية وواضحة المعالم والموارد وتستجيب للتطلعات المشروعة ولأولويات شركاء جوار أوروبا.
فمستقبل أوروبا ينبني أيضا على بناء نموذج مغاربي مبتكر ومنفتح على جواره ومنسجم مع الحقائق الجيوسياسية الجديدة الاجتماعية والاقتصادية لهذا المغرب في تصور العمراني يعمل دائما بدون كلل من أجل بناء مغرب عربي مزدهر وموحد وقوي يمكن أن يشكل نظيرا لأوروبا، وأيضا توجهه نحو أفريقيا الناشئة التي تشهد تطورا غير متوازن بالرغم من أنها تظل قارة ضعيفة كما يظهر ذلك الوضع بمنطقة الساحل.
تموقع المملكة
ويرى العمراني أن القارة الأفريقية ما زالت في مواجهة مستمرة مع تهديدات أمنية متنامية وتحديات متشابكة، من إرهاب وتطرف ديني وجريمة منظمة وتهريب بكل أنواعه والاتجار في البشر، وهذا دعا إلى التعاون الفعال واستغلال مقدراتها لتنمية مستدامة يكون الاهتمام بالبشر محورها الأساسي.
ضمان الأمن أمر مهم بالنسبة إلى العمراني لكن يعير الأهمية والوقت أكثر للتعاون والتنمية في الوقت الراهن وذلك من أجل إرساء فضاء السلم والاستقرار. فالمتوسط والاتحاد الأوروبي ودول الجنوب مكونات بحكم الجوار تحتاج إلى مشروع يجمع ويعبئ وينتج النمو والثروة، كما يمكن أن يشكل التعاون على ضفتي المتوسط زائدا أفريقيا إطارا من شأنه تطوير وتعزيز حوار الديانات والثقافات والحضارات ونبذ الانعزالية والإقصاء.
فالمخاطر المرتبطة بتغير المناخ وأثرها على الأمن البشري والغذائي للأفراد وعلى استقرار الدول، والمتسببة في التصحر والنزاعات وتدفق الهجرة، أثرها السيء ينتقل بالضرورة إلى الاتحاد الأوروبي.
المطلوب من أوروبا إعادة النظر في علاقاتها مع القارة الأفريقية ولا يمكنها الاستمرار في نظرتها الاستعمارية، ولهذا يحثهم العمراني كممثل للرؤية المغربية على الاستثمار بشكل أكبر في تنمية القارة، مؤكدا أن زمن التبعية والانتظار والجمود قد ولى وأن أفريقيا تسير اليوم بكل تؤدة نحو مستقبل كله ثقة وأمان.
يدمج العمراني تكوينه الدبلوماسي في الممارسة السياسية، فحين انتخب عضوا باللجنة التنفيذية للاتحاد العام لطلبة المغرب سنة 1974، وعضوا بالمكتب التنفيذي للشبيبة الاستقلالية سنة 1978، تم اختياره بقبعته الحزبية، وكانت سببا أيضا في مغادرته منصبه الحكومي بعد صراع بين حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية تحت قيادتي حميد شباط وعبدالإله بنكيران.
فدرايته بوضع بلده والمحيط الإقليمي والدولي تجعل من العمراني صاحب نظرية استراتيجية تقول بأن المغرب استطاع أن يراكم تجربة مهمة في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن والعلاقات الدولية أهلته للتعامل مع التغيرات بإطلاق عدة مبادرات لفائدة السكان. وعلى الرغم من الظرفية الدولية الهشة، واصل المغرب تعزيز نموذجه بفضل الرؤية الشجاعة والطموحة للملك محمد السادس من أجل مجتمع ديمقراطي حداثي، متجذر بقوة في القيم المغربية التي تتمثل في الحرية والانفتاح وحقوق الإنسان، وذلك في إطار احترام الهوية الوطنية المتعددة وغير القابلة للتجزيء.
النزاعات الإقليمية والمحلية والإرهاب والهجرة والتغيرات المناخية وقضايا الأمن المائي والغذائي والتنمية تحديات أفريقية بامتياز ينبغي معالجتها بعمق وحنكة سياسية كبيرة، ولهذا يرى العمراني بعين الخبير والمفكر الاستراتيجي أن عمليات حفظ السلام والرد العسكري وحدهما لا يمكن أن يكونا أدوات فعالة لمجابهة تلك التحديات في سياقات اللااستقرار وعدم الأمن أو التطرف العنيف، معتبرا أنه بات من الضروري إدراج عمليات حفظ السلام في سياق عملية سياسية، تواكبها على المدى البعيد إصلاحات سياسية واجتماعية -اقتصادية وتنموية على كافة المستويات.
تتمثل مرتكزات الرؤية المغربية للقارة الأفريقية في تعزيز السلم والأمن وضرورة تحقيق نمو يعود بالنفع على الجميع، ويلخص العمراني وجهة نظره في أنه لا تنمية دون أمن وتحقيق التنمية البشرية في أفريقيا رهين بتعزيز السلم والاستقرار والأمن في كل مناطق القارة، ودعم الديمقراطية وتشجيع المسار التشاركي وتطبيق مبادئ الحكامة الجيدة، وكذلك احترام سيادة الدول ووحدتها الترابية وتماسكها الاجتماعي، وحل النزاعات بالسبل السلمية والتوافقية المبنية على احترام مبادئ حسن الجوار والأخوة.
العمراني إذن مطالب في جميع تحركاته سواء كسفير أم كمفكر استراتيجي بأن ينقل للعالم الرؤية الأفريقية للمملكة المغربية بقيادة العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي شجع على إرساء شراكة حقيقية مع أفريقيا، من خلال مبادرات ملموسة، من قبيل المشاركة في العديد من عمليات استتباب وحفظ السلام في أفريقيا، وسياسة الهجرة بما يتماشى مع احتياجات المهاجرين أو تعزيز المشاريع المهيكلة في مجال التنمية المستدامة والتكامل الاقتصادي وخلق الثروات في القارة.
التطرف والإرهاب
نظرته إلى كافة المواضيع التي تشغل بلده وقارته تتم بشكل منهجي وعقلاني بعيدا عن الكليشهات غير الضرورية في مجال يحتاج إلى الكثير من البراغماتية وصياغة الحلول الممكنة، والتهديد الإرهابي الذي يحدق بالمنطقة ويتجاوزها إلى أفريقيا وأوروبا، يراه العمراني يتغذى على النزاعات المتواصلة، وهو انعكاس للدعاية الدموية والعدمية التي تنتشر بين الشبكات بالخصوص وتلقى صدى عند شباب محبط وفاقد للبوصلة الاجتماعية.
مع هذه التهديدات الإرهابية العابرة للحدود وانتشار الخطابات المتطرفة والتغير المناخي أو الجريمة الإلكترونية، يستوجب تنسيق استراتيجيات التواصل الثنائي والجماعي والمزيد من التعاون الدولي والعلاقات متعددة الأطراف، في مجال مكافحتها، منها تفكيك خطابات الجهاديين المتشددين، والأمر يستدعي حسب العمراني مقاربة قائمة على استراتيجية واقعية وشمولية ومنسجمة وانخراط قوي للقادة الدينيين والإعلام والمجتمع المدني.
فالعمراني الخبير والدبلوماسي لا يمرر أي مناسبة إلا ويذكّر بالمقاربة المغربية في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف، في أبعاده الأمنية والسوسيو-اقتصادية والدينية التي مكنت المغرب من الحفاظ على أمنه واستقراره على المدى الطويل، تلك المقاربة المتمحورة حول التنمية البشرية الشاملة، وتعتمد على مبادرات طلائعية من قبيل إصلاح الحقل الديني، وتربية الفرد في إطار نشأته الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع والتصدي للخطابات المتطرفة التي تحث على الكراهية والعنف، وذلك من خلال نشر إسلام متسامح ووسطي.