لبيك اللهم لبيك»… يا ربي كرّمتَ الإنسان… وأهانه القيّمون على الحج!
الطاهر الطويل
بدأتْ أولى مواكب الحجاج المغاربة تعود إلى ديارها، بـ»سعي مشكور وذنب مغفور»، إن شاء الله، لكنْ ثمة ذنوب لن تُغتفر… ليس للحجاج أنفسهم، مَعاذ الله، بل ذنوب بعض القائمين على شؤونهم من مسؤولي المملكتين المغربية والسعودية، الذين جعلوا الحج موسما للنكد و»البهدلة» وإهانة قاصدي بيت الله الحرام، ربما… ربما تأثرًا بحالة التوتر والجفاء التي تشهدها هذه الأيام العلاقات بين البلدين المَوْصُوفين ـ حتّى وقت قريب ـ بالشقيقين.
فخارج الكلمات المُغلفة بهالة دينية مصطنعة، مثل تلك التي يتشدّق بها مسؤولو البعثة المغربية في الحج عبر وسائل الإعلام الرسمية، وخارج الصور النمطية المكررة التي تبثها نشرات الأخبار التلفزيونية للإيحاء بأن كل شيء على ما يُرام، تتداول مجموعة من المواقع الإلكترونية ومنتديات التواصل الاجتماعي مَشاهد مُخزية لأوضاع بعض الحجاج المغاربة في بلاد الحرمين الشريفين، حيث المعاناة مع سوء الوجبات الغذائية والنوم في المراحيض والتكدس في الحافلات واضطرار الحجاج إلى الخروج من نوافذ تلك الحافلات، وضمنهم مرضى ومسنّون ونساء… في غياب أي اهتمام من لدن أعضاء البعثة المغربية.
ولا عجب في ذلك، فعِوَضَ أن يكون الحج ـ كما يُفترَض ـ فضاء للترفّع عن مُغريات الحياة الدنيا، وتأكيد المساواة بين الناس جميعا، والتواضع أمام الخالق سبحانه، وتقاسم الظروف نفسها في المبيت والمأكل والحل والترحال، تحوّل الموسم الديني إلى تجسيد للتفاوت الطبقي الصارخ بين قاصدي بيت الله الحرام، وتحولت العبادة إلى امتياز لدى أعضاء البعثة المغربية، ممن صرفوا النظر كليةً عن أوضاع الحجاج المزرية التي صوّرتها الهواتف المحمولة، وانتشرت الفيديوهات كالحصاد في الهشيم، وشُوهدت دموع غزيرة تنهمر من عيون كهول وشيوخ، مما لم ينفع معه «البلاغ التكذيبي» لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما تبخرت معه لغة الخشب التي أدلى بها رئيس البعثة للميكروفونات، وهو يردد كلمات حفظها عن ظهر قلب.
ربما المصادفة وحدها هي التي قادت إلى أن يكون على رأس البعثة المغربية، هذا العام وزير السياحة محمد ساجد، فما حدث لمجموعة من الحجاج هناك، يفيد أنه كما لو أن الرجل ذهب إلى مكة سائحا أو ساعيا لاستقطاب سياح جدد للمغرب. والحال أن «شوهة» الحجاج المغاربة التي أصبحت مكشوفة للعالم وحديث كل لسان تستدعي إقالة ذلك الوزير، ومعه زميله أحمد التوفيق، الوزير الخالد في الأوقاف والشؤون الإسلامية، تذهب الحكومات وتأتي أخرى، وهو ملتصق دائما بكرسيّه، بعيدٌ عن كل محاسبة أو مساءلة.
استضافه التلفزيون المغربي مرة في برنامج حواري، وحين سُئل عن قطاع الأوقاف نَهَـر الصحافي السائل، لكونه اقترب من «عش الدبابير». وهكذا تحول السؤال عن الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ في عرف الوزير التوفيق ـ إلى ما يشبه المعصية التي تستدعي التوبة العاجلة.
مَن يُقنع أحمد التوفيق، إذنْ، أن مكانه الطبيعي ليس هناك، وأن طريقة تدبيره للقطاع لا تنسجم مع مكانته واسمه، وأن الدوام على كرسي الوزارة ليس بالضرورة دليلا على نجاح مُفترض؟ مَن يُقنعه أن صورته كأديب ومفكر ومؤرخ أفضل بكثير من صورته كوزير؟ لقد أُعجِب الكثيرون برواياته الجميلة: «جارات أبي موسى» و»غريبة الحسين» و»شجيرة حناء وقمر»… كما أُعجبوا بانتقال الرواية الأولى إلى فيلم سينمائي حمل توقيع المخرج محمد عبد الرحمن التازي؛ ولكنهم تذمروا لطريقة تعامله مع عدد من الملفات الوزارية كملف حجاج بيت الله الحرام.
بين كسوة الكعبة والبطون الجائعة!
وبالعودة إلى موضوع الحج، فهناك جانب من المسؤولية تتحمله شريحة من الحجاج ممن يكررون أداء الحج عدة مرات، إذ ينتقلون به من الفريضة إلى النافلة. وما أحوجهم إلى مَن يفقّههم أكثر في مقاصد الدين وغاياته، وأن يوضّح لهم أن الأعمال الصالحة، بعضها يحقق نفعا ذاتيا يقتصر على أصحابها فقط، والبعض الآخر يحقق نفعا متعديا يشمل الناس الآخرين.
كلام حكيم وتمييز عميق، سمعته أخيرًا من أحد علماء السودان خلال استضافته من طرف قناة تلفزيونية عربية، حيث وجّه نداء لأهل البر والإحسان ممن يريدون أن يحجّوا مرات كثيرة ويعتمروا سنويا، وقال لهم: هذا المال الذي تنفقه في حج أو عمرة نافلة أولى أن تعيل به طالب علم لا يجد من يكفل منحته الدراسية، أو تكفل به يتيما أو أرملة أو تسد به مسغبة أو تكسو به عاريا أو تطعم به جائعا، أو تعين به من يؤدي الفريضة في حياته. فهذا من النفع المتعدي، وتخفف به من الزحام، حيث صار الحج درجات كأنه نزهة، للأسف.
وميّز العالم السوداني في الأعمال الصالحة بين تلك ذات النفع المتعدي والأخرى ذات النفع الذاتي، وأعطى مثالا بأحد صلحاء الأمة، كان يرغب في أداء الحج نافلة، فوجد امرأة أرملة تعيل أيتاما، فأخذ نفقة الحج وأعطاها تلك المرأة، ثم التفت إلى أصحابه وقال: هذا حجنا هذا العام. كما استدل العالم السوداني بما رُوي عن الخليفة عمر بن عبد العزيز، حين سأله بعضهم أن يتصدق بمال لكسوة الكعبة، فقال: إني أردت أن أجعل هذا المال في بطون جائعة، فذلك أولى من كسوة الكعبة، مع أن هذا عمل عظيم ومنقبة وفضيلة!
متى ينصت أثرياء المسلمين إلى مثل هذا الكلام المنطقي والسليم؟ حتى لا يبقى الحج ـ في نظر بعضهم ـ معادلا للمباهاة وكثرة الإنفاق، وحتى لا تظل الشعائر المقدسة عندهم أشبه ما تكون بفضاءات للسياحة والرفاهية، حيث يغلب الشكل على الجوهر، وتطغى المادة على الروح، وينسى الإنسان أخاه الإنسان!
ومتى يدرك القيّمون على الحج أن العبرة في هذه الشعيرة الدينية ليس بالكثرة الوافدة من كل أقطار العالم، ولكن بمدى القدرة على تنظيم تلك الأعداد الوفيرة وتسهيل مناسكها وتفادي الحوادث المؤسفة الناتجة عن الاكتظاظ الفائض عن اللزوم؟
لماذا يهرب المُشاهد؟
في الوقت الذي كان فيه مسؤول محلي مغربي من مدينة طنجة موجودا في الديار المقدسة، فوجئ مَن يعرفونه حق المعرفة وهو يعطي تصريحا التلفزيون المغربي أثناء أداء صلاة عيد الأضحى. وقُدِّمَ التصريحُ ضمن تغطية القناة الأولى لأجواء العيد في مدينة طنجة. وبعد عملية تحرٍّ واستقصاء، تبين للمتتبعين أن التصريح سُجّل مع المسؤول المذكور في مناسبة دينية سابقة، ولم يجد مُعدّو التقرير التلفزيوني ضررا في إقحامه، ما دام أن الكلام الذي قاله يصلح لأن يُقال في كل عيد، وليس مخصوصا بحدث في حد ذاته.
والواقع أنني لا أجد أتفه ولا أسفه أو أبلد من بعض التقارير التي يملأ بها مسؤولو الأخبار نشراتهم كل مرة، والتي تتشابه في لقطاتها وصيغها التعبيرية: أجواء العيد ـ وفرة أكباش العيد ـ موسم الاصطياف بين البحر والجبل ـ عودة المهاجرين إلى وطنهم ـ موسم الدخول المدرسي… فالمشكلة ليست في هذه الموضوعات بحد ذاتها، ولكن في طريقة معالجتها وتقديمها للمشاهد، حيث تغيب المعطيات الجديدة، وتطغى النبرة التنميقية التي تحاول تجميل الصورة، وتتكرر تصريحات المواطنين والمسؤولين، بحيث يمكن للتقرير الذي يقدمه التلفزيون خلال هذا الصيف أن يبثه الصيف المقبل أو الذي بعده، كما لو أنه يُقدَّم لأول مرة، دون أن يغير في الأمر شيئا.
ومع ذلك، يتساءلون: لماذا يهرب المشاهد المغربي نحو القنوات الأجنبية؟!